بقلم - عبد الغني سلامة
على مر التاريخ، كانت المجتمعات الإنسانية تتكون من شقين: السلطة وتحالفها الحاكم من جهة، والشعب من جهة ثانية؛ وكانت العلاقة بينهما قائمة على القهر والتسلط.. وبالرغم من حجم الظلم الواقع على الجماهير، إلا أنها لم تَثُر عليه كما هو متوقع.. وأغلب الثورات الاجتماعية التي قامت، كان دافعها الانتقام من رموز السلطة، وإسقاطها، لذا لم تُحدِث تلك الثورات التغيير المأمول، فما كان يجري عملية استبدال سلطة بسلطة أخرى، مع استمرارية الظلم والقهر، لكن بوجوه وأدوات وشعارات مختلفة.
الإحساس بالظلم لا يصنع ثورة؛ ربما يصلح وقودا لها، أو لتحريض الجماهير، لكنه لا يكفي.. فأهم عامل لحدوث ثورة اجتماعية ناجحة هو الوعي بأسباب الظلم.. بيد أنّ إحداث الوعي عملية شاقة وطويلة، لوجود عراقيل كبيرة أمامها، أهمها تماسك أدوات السلطة وتعمقها، والخوف من قمعها.. لكن الأهم من الخوف هي ثقافة الإذعان للسلطة، والتسليم بالأمر الواقع (ويمكن تسميتها خلق المواطن المستقر).. وهذه الثقافة تكونت على مدى قرون طويلة، عبر عوامل مساعدة عديدة.. وتظهر بتجليات معينة، وهي مترابطة على نحو ما، وكل واحدة تقود إلى الأخرى.
ومن أبرز تجليات عقلية الإذعان أن الشعوب لم تكن ترفض الدكتاتورية من حيث المبدأ، أي أنها لم تكن ترفضها كنظام حكم، إنما ترفض سياساتها بالقدر الذي تتعارض مع المصالح الشخصية.. فمثلا، قد تقبل الأكثرية سياسات السلطة الظالمة والتمييزية طالما أنها غير متضررة منها (قد تكون الأكثرية مجموعة إثنية أو طائفة)، فليس مهمّاً عندها ما يجري للأقليات الأخرى.. أو أن تقبل شرائح اجتماعية أو ثقافية قرارات ظالمة للسلطة لأنها تتماشى مع توجهات ومعايير تلك الشرائح، علما بأنها تمس فئات اجتماعية وثقافية أخرى مختلفة.
التجلي الثاني: عدم الاقتناع بأن العدالة يجب أن تشمل المواطن والمسؤول (والمسؤول هنا الحاكم وحاشيته وحلفاؤهم)، ففي بلدان العالم الثالث عموما، لا يطالب المواطنون الفئات العليا في الدولة أن يتقيدوا بالقوانين والأنظمة التي تسري على عامة الشعب.. فيسكتون على تجاوزاتهم ليس بسبب الخوف فقط، بل لاعتقاد البعض أن منظومة العدالة لا تنطبق عليهم، ويحق لهم ما لا يحق لغيرهم.. فمثلا يستغربون من مَشاهد عادية في الدول الديمقراطية؛ كأن يركب وزير في باص، أو يصطف حاكم ولاية في طابور الخبز، أو يتنقل رئيس وزراء على «البسكليت»، أو يتسوق رئيس الدولة بنفسه دون حراسة.
الثالث: تقديس الزعيم (رأس الدولة، أو زعيم القبيلة، أو شيخ الطائفة).. في المجتمعات المتقدمة تغيب تماما تشكيلات القبيلة والطائفة.. والرئيس في نظر المواطنين مجرد موظف، يمكن مساءلته، وانتقاده، ومحاكمته، أو حتى ضربه بالبيض.. وعليه تفهم ذلك، ولا يجرؤ الإعلام هناك على تقديسه، ببساطة لأن تلك المجتمعات نضجت، وتخلصت من فكرة الزعيم، ولم تعد بحاجة إليه، واستبدلته بالمؤسسات والقوانين والانتخابات.. في بلداننا يُحاط الزعيم بهالة من القداسة، وتتم تغذية تلك الثقافة عبر وسائل الإعلام، والأناشيد «الوطنية»، ونشر صوره في كل مكان، وحتى إقامة تماثيل له.. ليس لأن الإعلام مصفق ومنافق، بل لأن الثقافة الشعبية تسمح بذلك، ولأن تلك الشعوب ما زالت تنتظر المخلص، أي الزعيم العادل القوي الذي يتواضع أحيانا فينزل للشارع، ويتصور مع الناس، ويزورهم في بيوتهم، ويغدق عليهم من كرمه ومكرماته.. وأي انتقاد للزعيم، ومن هم حوله يعتبر «قدح مقامات عليا»!! من الذي منحهم لقب «مقامات عليا» سوى ثقافة الإذعان، وثقافة التقديس؟؟
هذا الزعيم، عندما يخاطب الجمهور يبدأ بكلمة «أبنائي».. فيتقمص على الفور دور الأب؛ الأب الذي يتوجب طاعته، وتوقيره.
الرابع: ضعف الشعور بالانتماء للمجتمع، وعدم إحساس المواطن بأن المرافق العامة (شوارع، حدائق، إشارات المرور..) بأنها ملك له، ويجب أن يحافظ عليها، بل اعتبارها من ممتلكات الدولة، التي ينظر إليها بريبة وعداء مبطن.. وهنا يكون المجتمع في نظر المواطن هو حدود منزله فقط، والحيز العام هو ميدان للاستفادة والشطارة والفهلوة.. يرافق ذلك الاعتقاد بأن شعارات الدولة، وما تدعيه من قيم، وكذلك برامجها التنموية ليست للتطبيق، إنما للتسويق الإعلامي.
وهذه سببها عدم وجود مؤسسات ديمقراطية حقيقية، وهشاشة مؤسسات المجتمع المدني، والارتجال في اتخاذ القرارات، ما يضعف ثقة المواطن بحماية القانون، وعدم إحساسه بالدولة كمظلة شاملة، وبالتالي يصبح الولاء للقبيلة والحزب والشيخ وليس للدولة.
وهذا يؤدي أيضاً إلى غياب مفهوم «المال العام»، والاعتقاد بأن المواطن لا يحق له الاعتراض على سياسات الإنفاق في الدولة، أو المساءلة عن الموازنات العامة، أو انتقاد وزير على هدره للمال العام في مسائل شخصية، أو غير ضرورية، أو معرفة تفاصيل المشاريع الكبيرة.. فالمواطن يدفع الضريبة، لكنه لا يعلم بالضبط أين ذهبت، وهل أُنفقت بشكل صحيح أم لا.. وحتى الصحافة المتخصصة لا تستطيع معرفة ذلك، فالمعلومات إما محجوبة، أو غامضة.. أو غير دقيقة في حال نشرها على الملأ.
في هذه البيئات، يصبح أي انتقاد للدولة، أو لرموزها اصطفافا إلى جانب الدول المعادية، وتنفيذ أجندات خارجية، وتلقي أموال أجنبية.. وليس انتقادا هدفه المصلحة الوطنية، أو لتصويب المسار، وتصحيح الأخطاء.
الخامس: المغالطات الكثيرة في مفهوم الفساد؛ حيث يسود معتقد خاطئ بأن الفساد هو سرقة المسؤولين الكبار من أموال الدولة، ولا يشمل هذا الفهم مظاهر الفساد المجتمعية الأخرى؛ مثل تلكؤ الموظف عن أداء واجبه، عدم الامتثال لقواعد المرور، عدم تقيّد المصانع بالمواصفات القياسية، إهمال المريض في غرفة الطوارئ، رفع الأسعار، الغش، الاحتكار، التهريب، التهرب الوظيفي، المحسوبيات، الواسطة.. كما أنّ دعوات مكافحة الفساد تأتي في كثير من الأحيان من قبل أشخاص معترضين لأنهم فشلوا أن يصبحوا فاسدين.. وهذه كلها ممارسات تساهم في نشر وتعميم الفساد على مستويات أكبر وأخطر.
محاربة الفساد تتطلب أولاً التخلص من عقلية اتهام الآخرين وتبرئة الذات، كما لو أن الفساد هو فقط ما يتعارض مع مصالحنا، أو هو ما نراه في الآخرين فقط، ثم نقر بأن المنبع الحقيقي للفساد هو المواطن غير المنتمي واللامبالي والسلبي الذي يرى الفساد ويتعايش معه.
بعد ذلك كله، يمكن فهم كيف نجحت الأنظمة الاستبدادية في التحكم في شعوبها أزمنة طويلة.