بقلم : عبد الغني سلامة
الوهم الأول: يعتقد بعض الفلسطينيين أن ضم إسرائيل للضفة الغربية، متحقق لا محالة، ولا نملك إزاءه شيئاً، وليس بوسعنا منعه.. وهذا الوهم بات خياراً مفضلاً عند كثيرين؛ إذ يقول هؤلاء: إن خيار السلام مستحيل، والحل السياسي وصل إلى نهاية مسدودة، وأنَّ السلطة فاسدة، ولم تحقق التنمية والازدهار كما توقع الناس منها، بل ازدادت معها الأمور بؤساً وتعقيداً، وصارت الحياة أصعب في ظل الحواجز والإغلاقات.. وبالتالي إذا ضمت إسرائيل الضفة، فسينعم المواطنون بخيرات إسرائيل، وبركاتها، وسيتمكن العمّال من التوجه إلى داخل الخط الأخضر دون تصاريح، وسيكون بوسع المزارعين فلاحة أراضيهم وريّها، وجني ثمارها، وتصدير الفائض منها. وسيكون الجميع أمام دولة تحترم القانون.. وستتوقف ممارسات الاحتلال التعسفية، وقد يعمّ السلام الاقتصادي ربوع البلاد، فتنهال المليارات، وتزدهر المشاريع.
إذا كان بعض ما سبق ذكره صحيحاً (انغلاق الأفق السياسي، وفشل السلطة في جلب الازدهار)؛ فإن كل الاستنتاجات التي بنيت على ذلك مجرد أوهام، وأحلام ساذجة، وشطحات تريح من يعتقد بها من عناء التفكير.
أولاً: أميركا لن توافق على الضم الكامل، ولا على فكرة الدولة الواحدة لأسباب إستراتيجية وأمنية، سبق الحديث عنها.. وثانياً: إسرائيل لا ترغب في الضم، لأن ذلك سيعقّد المسألة الديموغرافية (فيلم الرعب الإسرائيلي)، وسيؤثر على صورة إسرائيل أمام العالم.. لذلك، فإن ما ستحاول إسرائيل فعله (بموافقة أميركية مشروطة) هو ضم الغور، والمستوطنات والأراضي المحيطة بها.. ومنح الفلسطينيين دويلة مقطعة الأوصال، على شكل جزر معزولة، وستعامل المواطنين المقيمين في تلك الدويلة المسخ، بأعلى درجات التمييز والعنصرية، دون أي حقوق، وستظل تتحكم في حركتهم وتنقلاتهم، ومصادر رزقهم، وستواصل نهب مواردهم، ولن توقف عمليات القتل والتهجير وهدم البيوت والاعتقالات.
إسرائيل ما زالت تمارس التمييز العنصري ضد فلسطينيي الداخل، رغم أنهم حاصلون على الجنسية، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن نسبة الفقر والبطالة في الوسط العربي هي الأعلى، ومستوى الأجور هو الأدنى، فضلاً عن التمييز في التوظيف، وفي تقديم المخصصات للمجالس المحلية العربية، وفي سائر مرافق الحياة الأخرى، والقرى غير المعترف بها.. والحال أسوأ بالنسبة للمقدسيين، فهم لا يحملون جوازات سفر إسرائيلية، ولا فلسطينية، وتمارَس بحقهم أبشع أشكال العنصرية، وتضيّق السلطات عليهم سبل الحياة بشتى الوسائل، وتواصل عمليات الاغتيال والاعتقالات وهدم البيوت.. فكيف سيكون الحال بالنسبة لمواطني الضفة الغربية؟
الوهم الثاني: يعتقد البعض أن حل السلطة هو الخيار الأمثل، فبمجرد حلها ستعود الحالة النضالية إلى سابق عهدها، وسيتصاعد الكفاح المسلح، وستثور الجماهير، وستندلع انتفاضة شعبية عارمة، وستنهض فصائل المقاومة من سباتها، وربما تتحد، وستكون إسرائيل ملزمة بتحمل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية والقانونية تجاه الأراضي المحتلة، وستواصل تقديم الخدمات الأساسية للجمهور.
كل هذا وهم، ما سيحصل حقيقة هو الآتي: في اليوم التالي من حل السلطة، سيتصاعد الصراع بين الفصائل، وستصبح «الفضائيات» الساحة المفضلة لتراشق الاتهامات وحملات التخوين والتكفير، وبسبب الفراغ الأمني، ستعم حالة من الفوضى الخطيرة، وستظهر عصابات الشوارع، وستتقوقع كل عشيرة على نفسها، بل وستطالب كل محافظة بالانفصال، وستدعم إسرائيل إقامة دويلات عشائرية، يتصدرها وجهاء العشائر والمخاتير ورجال «الإصلاح»، وستنشأ على هامشها دويلات حزبية يقودها قادة الأحزاب ورجال الدين، وسيكون لكل حزب أولوياته: حزب التحرير سيخوض معركة منع تحديد سن الزواج للفتيات، و»حماس» ستخوض حرب فرض الحجاب على النساء، والجماعات السلفية ستتولى مهمة منع الأعراس المختلطة، أحزاب اليسار ستخوض حرب الشعارات الكبرى، والمزايدات الأيديولوجية، والأحزاب القومية ستكتفي بالتغني بالتاريخ المجيد، أما فتح فستنقسم إلى جماعات وتيارات.
وفي ظل هذه الفوضى العارمة ستتفتت الكيانية الفلسطينية، وستستغل إسرائيل فرصتها الذهبية لتبدأ عمليات الترانسفير.
فأي مسؤوليات سياسية وقانونية وأخلاقية ستتحمّلها إسرائيل تجاه الأراضي المحتلة؟ ما الذي سيجبرها على ذلك؟ ومتى كانت إسرائيل تحترم القانون الدولي؟ ومتى كانت معنية بمسؤولياتها الأخلاقية؟
ما سبق ليس مجرد سيناريو مرعب، وليست أوهاماً مبنية على رغبة سياسية مسبقة.. ما سبق عبارة عن قراءة موضوعية، تعتمد على قراءة سجل حافل من التجارب الفلسطينية، وعلى تجارب الشعوب، وعلى حقائق علم الاجتماع وعلوم السياسة.. وعلى فهم حقيقي لطبيعة إسرائيل، ودورها الوظيفي، وأطماعها، وبنيتها الأيديولوجية، ومشاريعها المستقبلية.
من يقول: إن حال الفلسطينيين أيام الاحتلال الإسرائيلي المباشر كان جيداً، وكان بوسع أي أحد الوصول إلى يافا دون عناء.. قد يكون هذا صحيحاً نسبياً، لكن إسرائيل كان تفعل ذلك بناء على إستراتيجيتها في ضم السكان، وليس حباً بالفلسطينيين، ثم غيرت إستراتيجيتها إلى العكس منذ بداية التسعينيات، وأصبحت قائمة على طرد السكان وتهجيرهم، لصالح الاستيطان وضم الأراضي فقط.. والتاريخ لا يعود للوراء، وعشرات الحقائق الجديدة فُرضت على الأرض، وتغير المشهد كلياً.
ومن ناحية ثانية، السياسة لا تقبل الفراغ، وأي فراغ ستخلفه السلطة ستملؤه إسرائيل، والدول المحيطة، والقوى المحلية، التي ستدخل مرحلة من الصراعات الدموية.
الوهم الثالث: التوهم أن الحل السياسي السلمي هو الحل الوحيد للقضية، وعبر المفاوضات، والمراهنة على المجتمع الدولي. والحال المزرية التي وصلنا إليها أكبر برهان على عدمية هذا الخيار. هذا الخيار يمكن أن يكون واقعياً في حال توفر جملة من الشروط، أهمها: إنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة الوطنية، وتمتين الجبهة الداخلية، وإنهاء حالة التكلس والوهن لدى الفصائل، وتصعيد المقاومة الشعبية، وإشعال كافة مواقع الاشتباك مع العدو، وتصويب البرنامج السياسي ضمن إستراتيجية كفاحية جديدة، وإصلاح وتقوية منظمة التحرير وإسناد الدور السياسي والنضالي إليها، وجعل السلطة الوطنية إطاراً ناظماً للفلسطينيين داخل الوطن، في مجال تقديم الخدمات (مع تحسينها وتطويرها)، وتجهيز البنية التحتية للدولة المستقبلية، ومكافحة الفساد، وإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية ومجلس وطني، وتصعيد برنامج كفاحي على الساحة الدولية (دبلوماسي وسياسي وإعلامي)، والأهم العودة للخيار الجماهيري.
خلاف ذلك، سنظل معلقين بحبال الوهم، وسنظل نجني الخيبات والهزائم.. وسنتحول إلى مجموعة قبائل وعشائر متناحرة، وحينها، لن يرحمنا التاريخ.. لأننا لم نستفد من تجاربنا السابقة.