بقلم : عبد الغني سلامة
في مسيرة التطور السيسيولوجي للمجتمعات الإسلامية حدثت تغيرات كبيرة في مفهوم الدين، أو في طريقة فهم الدين والتعاطي معه وتطبيقه (وهذه ظاهرة طبيعية رافقت المسار التاريخي لجميع الأديان)، بعض تلك التغيرات إيجابية، وبعضها سلبية، وقد حدثت على يد الفقهاء ورجال الدين، وبطريقة متدرجة، بحيث أنتجت مفهوما مغايرا للدين عن صورته الأصلية.
جاء الإسلام في انطلاقته المبكرة في وسط اجتماعي يميل للبداوة، في بيئة بسيطة، ذات تركيبة اجتماعية قبلية وشبه أمية، وبنية اقتصادية تنتمي لمرحلة بقايا المشاعية وما قبل الرأسمالية، تفتقر لمقومات الحضارة المعقدة، وتخلو من الفنون والفلسفات والمعمار.. لذا تعاطت معه الأجيال الأولى من المسلمين بطريقة فطرية، اقتصرت على أداء الطقوس، وتطبيق تعاليم القرآن ووصايا الرسول.. في المسائل التي كانت سائدة آنذاك.. ولكن بعد الخلافة الراشدة (وهي فترة قصيرة من عمر الحضارة الإسلامية)، بدأت تظهر طبقة جديدة من رجال الدين، وبدأت معها تظهر العلوم الفقهية، ترافق ذلك مع تحول شكل الدولة إلى الإمبراطورية، وتعقد البنيات الاجتماعية، وظهور الفرق والتيارات الفكرية، والتي ظهرت معها الثورات الشعبية والفتن والصراعات الاجتماعية والسياسية.. واستمر هذا التحول على مدار الألف سنة التالية.. خلال تلك الفترات الطويلة طرأت على العالم تحولات جذرية، وظهرت معطيات جديدة مختلفة كليا، ابتلعت معظم المفاهيم والقيم القديمة، التي كانت هي الأخرى تتغير وتتطور باستمرار.
في أيديولوجية الإسلام السياسي، التي بدأت مع الوهابية، ووصلت ذروتها بعد النصف الثاني من القرن العشرين، سنجد مفاهيم جديدة، تزعم أنها تستمد شرعيتها من الإسلام الأول، وهذه المفاهيم كانت من بين أسباب تأخر العالم العربي والإسلامي؛ سنجد فيها مزجا مصطنعا بين مفاهيم متناقضة، وبعض الإقحامات القسرية (الأيديولوجية).
سنجد مثلا (لدى العامّة) خلطا بين الدين وبين التراث الديني، بحيث صارت كل الوقائع والأحداث التي ظهرت خلال الأزمنة السابقة كما لو أنها جزء من الدين، أو هي الدين بحد ذاته، وهذا قاد إلى الخلط بين الدين ورجال الدين.. فصار كل فقيه أو رجل دين متحدثا باسمه، وممثلا له.. وبذلك اكتسب هؤلاء قداسة الدين نفسه، وصارت واجبة طاعتهم، والانقياد لآرائهم، بل ومتعذرا نقدهم، أو لومهم.. وهذا أدى بالضرورة إلى تقديس أقوالهم وأفعالهم.. فالتقديس لم يقتصر على النص الأصلي (القرآن) بل شمل الفتاوى والآراء الفقهية وأي اجتهاد يتوصلون إليه في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية..
هذا الخلط، وذلك التقديس حجبا رؤية الأمور على حقيقتها، ومنعا أي فرصة لفهم القضايا في سياقها التاريخي والسيسيولوجي، والأهم أنهما عطّلا عمليات النقد والتصويب، وبالتالي بقي كل شيء معلقا في الماضي، وتعمقت عزلة المجتمعات الإسلامية عن حاضرها، وعن محيطها الخارجي الإنساني. وفوق ذلك تم رسم صورة مثالية عن الماضي، صارت ملاذا ونموذجا تجب العودة إليه، وإعادة إنتاجه كما كان.. وفي النتيجة بقيت الذهنية الإسلامية معلقة هناك، ولم تستطع التعامل مع الحاضر، ولا ولوج المستقبل.
في سياق متصل، تم الخلط بين الدين والعلم.. وبين الدين والفنون والفلسفة.. الدين معطى إلهي، مع أنه في جوهره مرن، ومتطور، إلا أن الفقهاء حولوه إلى كيان جامد، متوقف عند القرن الأول الهجري، وجعلوا منه مجرد نصوص ثابتة، ويقينية، ومقدسة لا تقبل إلا بتأويل معين.. بينما العلم غير مقدس، وغير ثابت، ولا يقبل بالإجابات الجاهزة اليقينية، بل ويشكك في كل شيء، ويبني نظريات جديدة على أنقاض نظريات أسبق، وهكذا.. لذلك فإن إقحام الدين على العلم أضر بالجهتين، ومنع المسلمين من التقدم في المجالين العلمي والتكنولوجي.. وهذا ينطبق على الفلسفة.. فالدين مقيد، ومليء بالتابوهات، بينما الفلسفة حرة، ولا توجد فيها محرمات، أو أشياء يحظر التفكير بها.. وطالما أن الفلسفة أساس التطور (ألمانيا قبل أن تصنع المرسيدس أنجبت ديكارت، ونيتشه، وهيغل، وأينشتاين، وكانت، وروزا لوكسمبورغ، وماركس، ومينلدسون..)، بينما توقف المجتمع الإسلامي عن الفلسفة بعد القرن الثالث الهجري، بل وجرى تحريمها.
أيضا إقحام الدين على الآداب والفنون، أدى إلى تقييدها وخنقها.. فالفنون والآداب (وهي شرط أساسي للتحضر) حتى تزدهر تحتاج آفاقا رحبة من الحرية لتحلق فيها دون قيود ولا ضوابط فقهية.
الخلط الثالث تم بين الدين والأخلاق، واعتبار أنّ منشأ الأخلاق من الدين فقط.. فصار مفهوما لدى العامّة أن الأخلاق لا يمكن أن تكون خارج الدين، ولا يمكن للإنسان أن يكون خلوقا ما لم يكن متدينا.. ومن تجليات هذا الخلط التركيز على التربية الدينية، بالذات على الطقوس والشعائر والمظاهر، بمعزل عن الأخلاق في بعض الأحيان، لذا قد تجد شخصا متدينا لكنه يغش ويكذب ويسرق ويعتدي على الأملاك العامة.
تقول د. أسيل العوضي: الدين يحث على الأخلاق، بل إنه أتى ليتمم مكارم الأخلاق، لكنه يعطي أحكاما أخلاقية عامة دون تفصيلات.. بينما الأخلاق مذهب خاص مستقل بذاته، وعلم له أصوله، وهي سمة أصيلة للإنسان.
وقد ترافقت الأخلاق جنبا إلى جنب مع تطور الحياة الإنسانية.. خاصة مع تعقيدات الحياة الاجتماعية التي صارت تتطلب تدريبا خاصا على صناعة القرار الأخلاقي، والتمييز بين الصواب والخطأ، والتمييز بين السلوك الشخصي الذي يؤثر على الآخرين، وبين السلوك الشخصي الخاص، مثل اللباس والمظهر، خاصة عندما يبرز تناقض بين الدوافع الأخلاقية والدوافع الشخصية، ففي هذه الحالة ينحاز الإنسان عادة لدوافعه الشخصية، أي لحاجاته وغرائزه ورغباته وطموحاته، حتى لو كان في هذا ضررا على الآخرين، أي إذا كان سلوكا لا أخلاقيا، ومن السهل أن يجد الشخص تبريرات متعددة لسلوكه، أو يكتفي بالاستغفار، والتعويض عن سلوكه الخاطئ بالكفارة.. وهذا أدى إلى انقسام الشخصية إلى شخصيتين،: الأولى متدينة في مظهرها، والثانية بدائية، تمارس ما يحلو لها في الخفاء.
هذا الخلط أدى إلى تخلف قيمي في المجتمعات الإسلامية، مع أنها أكثر المجتمعات تدينا.. لكنه تدين شكلي.. وطالما أن القيم الأخلاقية أساس التحضر الإنساني، ستظل المجتمعات الإسلامية تراوح مكانها.. والمشكلة أن الخطاب الإسلامي لا يعترف بتخلف المجتمعات الإسلامية قيميا وأخلاقيا.. رغم شدة وضوح الفساد في مختلف مظاهر الحياة.. بل وعزل العالم الإسلامي عن المجتمعات الإنسانية، وناصبها العداء، ونظر إليها بفوقية، واعتبرها مجتمعات غير أخلاقية!