انفجار مرفأ بيروت المزلزل أصاب كل شيء في لبنان ومحيطه، أصاب الجانب المعنوي وطرق التفكير وعلم المنطق، وأعاد طرح ألف سؤال وسؤال، لماذا يحل الموت والدمار مرة تلو الأخرى بهذا الشعب الذي يواصل البحث عن حريته الحقيقية وغير الزائفة؟ الآن، يعكف اللبنانيون على مداواة جروحهم النازفة، ويتأملون جروحهم الروحية الأشد ألماً، مقدمين أكثر من رواية وتحليل للانفجار الذي دمر شريان العاصمة الرئيسي، مستأنفين رحلة البحث عن جواب للأسئلة القديمة الجديدة. هل يتجاوزون هذه المرة المنع الذي يُبقي السؤال سؤالاً غامضاً ومعوماً دون إجابة، يبقون السؤال مفتوحاً على العتم وليس على الضوء.
لذا يكتسب التحقيق في انفجار المرفأ أهمية قصوى، إذا ما أُمسك بالخيوط التي تقود الى حقيقة ما يجري في هذا البلد المنكوب بكل أنواع التدخل. يجوز القول إن معرفة أسباب انفجار مرفأ بيروت، قد تكشف أسباب الانفجارات والمصائب الأخرى وأصحابها في الداخل والخارج.
تأسست الدولة اللبنانية، ببنية طائفية جعلتها رهينة بشكل وبآخر للخارج، بدءا بالاستعمار الفرنسي صاحب هذه الفكرة الشريرة التي شكلت أداة سيطرة ما بعد الاستعمار، ثم استدعت هذه البنية أو أجزاء منها تدخلات إقليمية ودولية أخرى متقاطعة المصالح مع أجزاء ومتعارضة المصالح مع أجزاء أخرى من التركيبة الطائفية، ما قاد الى استمرار الصراع فيما بينها. الغريب في الموضوع، ان ائتلاف قمم الطوائف بقي على الدوام قبل تاريخ 4 آب وبعده، يدافع، مجتمِعاً ومنفرداً، عن بقاء هذه البنية الطائفية ومستخدما لها بما في ذلك أثناء الانتفاضة الشعبية اللبنانية 17 تشرين الأول عام 2019، وبعد هبة انفجار الميناء الحالية، اللتين طالبتا بإلغاء النظام الطائفي، فقد تسللت أكثر من جهة طائفية الى داخل الانتفاضة محاولة تجييرها وتحسين شروطها الطائفية ليس إلا.
وبقيت أطراف التدخل الخارجي مؤيدة لبقاء البنية الطائفية باعتبارها جسراً لأطراف تعبر من خلاله الى هذا البلد، ومنه الى دول الإقليم. وهنا التقت مصالح الأحزاب الطائفية التي تعتبر النظام الطائفي قدراً لا فكاك منه داخلياً، مع مصالح الذين يتدخلون في لبنان ويحولونه الى ورقة لتحسين شروطهم الاقليمية والدولية. التقاء المصالح حول وظيفة لبنان كورقة استخدامية داخلياً وخارجياً، أفضى الى صفقات تجديد النظام وتجديد التدخلات في الوقت نفسه، رغم اختلاف اهداف المتدخلين الخارجيين والداخليين.
إن كشف الغموض في انفجار الميناء، من المحتمل ان يكشف الغموض في انفجارات واغتيالات وسرقات وتزوير واستخدام مؤسسات الدولة فئوياً. كشف الغموض يعتمد على لجنة التحقيق فيما إذا كانت مستقلة، او تابعة للبنية الطائفية الداخلية او لقوى التدخل الخارجي. للأسف لقد سارع نظام الحكم اللبناني الى تشكيل لجنة تابعة له، ومن المعروف مسبقاً ان هذه اللجان مقيدة بخطوط حمراء تنسف حياديتها وشفافيتها المفترضة.
وعلى الرغم من المطالبة الشعبية بلجنة تحقيق دولية إلا ان الرئيس اللبناني ميشيل عون، والسيد حسن نصرالله رفضا التحقيق الدولي في الكارثة. وقد استهوى رفضهما معسكر الممانعة نظراً لاحتمال التسييس والمس بسيادة البلد. ويبدو هذا الموقف منسجماً مع سياسة الحكم الرسمي والفعلي. والسؤال هل الحكم اللبناني بمؤسساته مؤهل للتحقيق في أسباب الكارثة وضبط المسؤولين ومحاسبتهم بالحد الأدنى الذي يُرضي أكثرية اللبنانيين؟
باستخدام القياس مع تحقيقات سابقة لا يتوانى اي لبناني عن الشك ان لم نقل الطعن بمصداقية الحكم. فلم تفض التحقيقات بجرائم قتل (معروف سعد وكمال جنبلاط، حسين مروة، مهدي عامل، رشيد كرامي، رفيق الحريري، سمير قصير، جورج حاوي، جبران تويني، والمحققَين في قضية اغتيال الحريري وسام الحسن ووسام عيد. وعشرات غيرهم) عن تحديد القتلة، وقيدت الجرائم ضد مجهول، منتهكةً بذلك الحقين العام والخاص على حد سواء، ولم يفض التحقيق في قضايا الفساد والفاسدين التي أعادت لبنان الى العصر الحجري الى شيء. وهذا يعني ان التحقيق المحلي سيفضي الى لفلفة كارثة المرفأ او تقديم كبش فداء من الدرجة الثالثة، وقلب الصفحة بانتظار كارثة جديدة.
لا يوجد سبب لترك الجرائم بدون كشف المسؤولين عنها ومحاسبتهم إلا ضلوع الحكم بشكل مباشر او غير مباشر، وضلوع "حلفاء" الحكم وأوصيائه في تلك الجرائم. وهذا يعيدنا الى تحقيق دولي مستقل من قبل مؤسسات دولية برقابة شعبية لبنانية وجهات اختصاص لبنانية وعربية.
المخرج من المأزق اللبناني اصبح اكثر وضوحا بعد انفجار المرفأ، الحكم الطائفي وتركيبته هي المنتج الأساسي والعامل الاهم في التحول من طور الأزمات الى طور المأزق الذي يهدد لبنان برمته. البداية تبدأ بتقديم قانون انتخابي جديد، يستند الى تجديد العقد السياسي الذي بدأ في العام 1943، عقد وقانون يخرجان من العباءة الطائفية، ويتأسسان على الوطن والمواطنة والعدالة لكل اللبنانيين بصرف النظر عن طوائفهم ومنابتهم وانتماءاتهم السياسية، ويتأسسان على حظر استخدام لبنان كورقة ضغط لفائدة المتدخلين الإقليميين والدوليين، عقدٍ وقانون يُطرحان للنقاش في أوساط الشعب اللبناني ونخبه الثقافية والأكاديمية والسياسية، يحددان الأسباب التي قادت لبنان الى الهاوية والأسباب والمعايير والمبادئ التي من شأنها إخراج الشعب اللبناني من الهاوية.
بعد فترة كافية من الحوار الشعبي والاكاديمي والمؤسساتي يجري الاستفتاء على العقد السياسي والقانون الانتخابي اللاطائفيَّين، وبعدئذ يصار الى انتخابات ديمقراطية حقيقية. لا شك أن هذا المخرج يتناقض مع اصحاب المصالح في بقاء الطائفية، لذا فإنهم سيقاومونه، مرة بحجة ان سلاح المقاومة سيتضرر، وإزالته مطلب إسرائيلي وأميركي وغربي وخليجي. وقد يبرر هؤلاء ان استخدام لبنان كورقة ضد إسرائيل يختلف تماماً عن الاستخدامات الأخرى، متناسين ان ذلك الاستخدام ليس في مواجهة دور ووظائف إسرائيل الاستعمارية، بل يأتي من أجل تحسين دور إيران الإقليمي الذي سيسوى بصفقة على غرار اتفاق 5+1 ، ولا يغير من هذه الحقيقة خطاب البلاغة الذي يهدد بتدمير إسرائيل. ان بناء لبنان كوطن ديمقراطي هو أفعل سلاح ضد دور ووظائف إسرائيل الاستعمارية. الشيء نفسه ينطبق على دول عربية اخرى، دون إغفال حقيقة الموقف الإسرائيلي الداعم لبقاء الطائفية، والداعم لبقاء تهديد أمني ولكن بدون تهديد أمني، والداعم لتهديد دول خليجية من قبل ايران، والذي استثمرته في جذبها الى إسرائيل.
اذا كانت استراتيجية حزب الله المعلنة، تقول إنها سترد الصاع صاعين للعدو الإسرائيلي إذا ما اعتدى على لبنان، هذا شيء حسن، ولكن الا يمكن ردع عدوان إسرائيل من خلال ضم ترسانة سلاح الحزب وقواته وخبراته للجيش والدولة اللبنانية، وفي هذه الحالة سيكون كل الشعب اللبناني ومعه الشعوب العربية مع لبنان الذي يتصدى للعدوان. واقع الحال وهو الشيء غير المعلن ان استراتيجية حزب الله تتلخص بالرد على إسرائيل اذا ما اعتدت على إيران، او منع الاعتداء الإسرائيلي على إيران تحت هول ترسانة الصواريخ التي لدى الحزب، ولكن بثمن يدفعه الشعب اللبناني، عبر بقاء النظام الطائفي الذي يسمح للحزب بهذا الدور، وبقاء لبنان ورقة للاستخدام الإقليمي.
قد يهمك أيضا :
الموقف الأوروبي على المحك
لماذا لا تدخل السلطة مناطق (ب وج) لحماية شعبها؟