تضع إدارة الرئيس ترامب هذه الأيام كل ثقلها، لإبرام اتفاقات بين دول عربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، مستخدمة الترغيب والترهيب بأبشع صورهما، كحماية المستبدين الذين يعشقهم ترامب كما اعترف بذلك، وحماية المنتهكين لأبسط حقوق الإنسان المرتكبين جرائم بحق شعوبهم، ورعاية مصالح فاسدين، وشطب أسماء دول وجنرالات وأشخاص من قوائم الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان، ومعاقبة دول كإيران وروسيا وغيرها، والأنكى معاقبة الدول الأوروبية التي لا تلتزم بمعاقبة إيران.
هذه السياسات الشرسة يحولها شرطي العالم القبيح الى ورقة في حملته الانتخابية بعد خسارته معظم الأوراق، عل وعسى ان يفوز في ولاية ثانية. مخلفاً بذلك فوضى على صعيد كوني ودماراً للنظام العربي، واستفزازاً للشعوب وبخاصة للشعب الفلسطيني الذي نال نصيب الأسد من العقوبات والضغوط والخسائر.
في السياسة وصراع القوى هناك أخطار شديدة ومخاطر أقل، القوى التي تتقن فن السياسة تحدد الطرف الأكثر خطراً وتحشد كل القوى من أجل إبطال هذا الخطر وإفشال أهدافه أولاً وقبل كل شيء. نعم، الخطر الذي يواجه العالم مجتمعاً ومنفرداً دولاً وشعوباً الآن هو ترامب وسياساته ومشاريعه. سقوط ترامب في الانتخابات، او عزله إذا ما نجح، سينعكس على العلاقات الدولية إيجاباً، ويسمح للدول والشعوب الضعيفة بالتقاط أنفاسها. وهذا لا يعني التعويل الإيجابي على بديل ترامب وبخاصة في ما يتصل بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. المسألة تندرج في دائرة أكثر خطراً وتوحشاً او أقل.
الخطر الداهم على الشعب الفلسطيني هو «صفقة القرن» التي يعني نجاحها تدمير الحقوق الوطنية وتصفية القضية وتثبيت الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي ونظام الأبارتهايد على أنقاضها. ولا شك أن سياسات الاحتلال والاتفاقات العربية مع إسرائيل جزء من صفقة القرن، وجزء من الخطر الداهم. وفقا لذلك فإنه من المفترض توجيه كل الجهود الفلسطينية وجهود حلفاء الشعب الفلسطيني لإسقاط الصفقة ووقف انحياز أنظمة عربية لها.
وهذا يعني إعطاء الوزن الأكبر للتناقض مع الصفقة وتخفيف التناقضات الداخلية بالقدر الذي يستجيب أصحابها لمواجهة الخطر الأشد. فلا يعقل تأجيج التناقضات في صفوف الحركة السياسية لحظة وجود خطر داهم وتناض محتدم معه.
كما فعل عدد من الكتاب والمثقفين الذين اعتبروا أوسلو والسلطة وسلطة غزة والفساد والقمع هو الخطر والعائق، واعتبروا أن البداية تكون باختفاء هؤلاء من المشهد السياسي، وان كل رفضهم ومعارضتهم لا تعني شيئا، وهم السبب – البعض يقول الوحيد – في إبرام الاتفاقات العربية الإسرائيلية. وان مقاومة الصفقة والتطبيع العربي مع الاحتلال لا يكون بقيادتهم ولا بمشاركتهم.
يأتي ذلك في غياب بديل وطني ديمقراطي يتولى مهمة التغيير الداخلي وصد الخطر الخارجي. وبوجود مستوى من الاستجابة السياسية الرسمية (منظمة سلطة وفصائل) برفض صفقة القرن والتعاطي معها، ورفض الاتفاق الإماراتي البحريني، وعدم الخضوع للضغوط والابتزازات الاقتصادية وبخاصة الموقف من مصادرة مخصصات الشهداء والاسرى، وبوقف التنسيق الأمني والمدني، والتراجع عن الاتفاقات بشكل نهائي في حالة ترسيم ضم المستوطنات والأغوار. وبوجود مستوى من الاستجابة للوحدة السياسية (اجتماع الأمناء العامين والبيان الصادر عنه). في غياب البديل فإن زوال المؤسسة (سلطة ومنظمة) من المشهد السياسي طوعا او إرغاما، لا يخدم المصالح الوطنية عموما ولا عملية التغيير المرجو. بل سيفاقم التفكك ويفتح الطريق أمام بدائل الاحتلال المدعومة عربياً لملء الفراغ الناجم عن غياب المؤسسة التاريخية.
لا خلاف حول تشخيص الأزمة الناجمة عن إبرام اتفاق أوسلو. في شقها السياسي وفي شقها التنظيمي والإداري. الخلاف حول اعتبار اتفاق أوسلو خيانة وطنية أو خطأ استراتيجياً. تقديران سينعكسان على رؤية المخارج والمسارات البديلة. أوسلو خطأ استراتيجي وليس خيانة وطنية من وجهة نظري، خطأ نجم عن سوء تقدير القيادة الفلسطينية لموازين القوى في حركتها المستقبلية، وعن القراءة الخاطئة للمشروع الصهيوني النقيض، وسوء تقدير للنظام الدولي، وللنظام العربي. كم نحن بحاجة الى مراجعة عميقة للفكر السياسي الفلسطيني الذي اعتمد حلاً او تسوية بالاستناد للوساطة الاميركية وللنظام العربي المتهاوي، ولنظام دولي تسيطر عليه الدولة العظمى الأقوى المرتبطة بتحالف استراتيجي عميق مع إسرائيل.
إن وضع المشروع الوطني (التحرر من الاحتلال وتقرير المصير وإقامة دولة مستقلة) من خلال النظام الاستعماري ذاته وبالاستناد الى نظام عربي جزء منه ينتمي الى علاقات تبعية، والجزء الآخر يسير نحو التبعية، وكان من إنجازاته في السياق التبعي منع المقاومة الفلسطينية عبر كل الأراضي العربية المحيطة بفلسطين. هذا الرهان كان أشبه بمقامرة غير محسوبة وقد أفضت الى نتائج وخيمة. التبرير الذي قدمته قيادات فلسطينية مقايضة الاستقرار والأمن الذي يوفره العامل الفلسطيني بإنهاء الاحتلال.
بما في ذلك الاستعداد للدخول في علاقات تبعية، مقابل إنجاز برنامجها في إقامة دولة على حدود الرابع من حزيران. خطأ وليس الانتقال الى الخندق المعادي، لم تقبل قيادة عرفات في مفاوضات كامب ديفيد 2000 الصفقة المموهة التي عرضها باراك وكلينتون، وجرى التمسك بالأهداف المحددة في برامج المجالس الوطنية، وكان رد القيادة في تنظيم الانتفاضة الثانية التي كان طابعها مسلحاً وبمشاركة بعض أجهزة الأمن.
قرار الانضمام الى الأمم المتحدة كدولة مراقب ولكافة المؤسسات التابعة لها وبخاصة منظمة اليونسكو، رفض صفقة القرن وكل ما يتصل بها وبخاصة المؤتمر الاقتصادي في المنامة، ورفض اتفاقات الامارات والبحرين، ووقف كل انواع التنسيق بما في ذلك التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال. وهذا يختلف عن الانتقال الى الخندق المعادي الذي يتكيف المنتقلون إليه مع ما هو مطلوب ولا يرفضون شيئاً.
التعامل مع «أوسلو» كخطأ يفتح المجال أمام الخروج من مساره والدخول او العودة الى مسار التحرر وتقرير المصير، والانخراط في نضال مشترك ضد الصفقة وضد الخضوع العربي الرسمي لدولة الاحتلال. ويفتح المجال أمام نضال ديمقراطي يعيد بناء المؤسسة على أسس ديمقراطية. نقد المراحل السابقة وتحديد ما لها وما عليها واجب كل المثقفين والمناضلين، وما يعنيه ذلك من تصويب السياسات، والشروع في عملية هدم وبناء، وليس هدماً فقط.
مشكلة العامل الداخلي الفلسطيني مزدوجة شقها الأول إخفاق الاتجاه المركزي البيروقراطي في تحقيق الأهداف الوطنية وعدم قدرة المعارضة في بناء مسار تحرري بديل. الشق الثاني: إخفاق الاتجاه المركزي في دمقرطة المؤسسة والحياة المجتمعية وعدم قدرة المعارضة على ذلك، والسبب يعود إلى غياب الديمقراطية لدى السلطة والمعارضة باستثناء القليل.
البحث عن عناصر القوة الفلسطينية واستجماعها هي المهمة رقم واحد، لمواجهة الصفقة والضم والشطب، فلم يعد أمام الشعب الفلسطيني غير تقوية العامل الذاتي وتدعيم الصمود والتغيير حبة حبة هدما وبناء، بعيدا عن تكسير المجاديف وإطفاء الأمل. ما يهم الآن عدم توفير أي غطاء فلسطيني لجريمة القرن.