بقلم : مهند عبد الحميد
استعرض د. سري نسيبة عناصر المأزق الفلسطيني، كفشل المفاوضات، وتشقق مواقف الدول العربية بخصوص متلازمة السلام والتطبيع، وميوعة الموقف الدولي، والمشروع الوطني كان مجرد وهم. الفصائل تتصارع للحفاظ على كياناتها، المقاومة بكل أشكالها لا تغني ولا تسمن من جوع. لا شك في أن د. سري يستند الى واقع مرير وتحولات سياسية وأمنية. لكنه وضع نهايات ثابتة للحالين الدولي والعربي وتحولاتهما وكأنه يدعو الى الانسحاب الفلسطيني منهما بالقول: (ننسى الحلول، المشروع الوطني كان مجرد وهم)، ولم يتوقف عند حقيقة الوهم في مقاله وفي كتاباته السابقة، صحيح انه تراجع عن مشروعه السياسي السابق مع أيالون، لكنه لم يُعرّف الوهم.
لا يوجد شعب تحت احتلال او استعمار بدون مشروع للتحرر الوطني، وفي كل الأحوال لا يقود الفشل في تحقيقه إلى التراجع عنه، كما لا يعادل نجاح المشروع الوطني إلحاق الهزيمة بإسرائيل، بل باضطرارها للتراجع عن احتلالها للأراضي المحتلة عام 67، وذلك يحدث بعد تحويل الاحتلال الى قضية خاسرة إسرائيلياً بتضافر ضغوط خارجية تساهم بنشوء معارضة إسرائيلية ضاغطة.
الفشل صحيح، ويستدعي التوقف عند أسبابه والعمل على تجاوزها، والتي يمكن اختصارها بسبب خارجي عنوانه الترامبية وامتدادها العربي التي كافأت المحتلين واعتمدت روايتهم السياسية ومشروعهم في أقصى تطرف. ويمكن تحديد الفشل فلسطينياً باعتماد قيادة الحركة الوطنية على الدور الأميركي أساساً وعلى الموقف العربي الرسمي ثانياً وعلى الموافقة الإسرائيلية ثالثاً، في تحقيق المشروع الوطني، في الوقت الذي كان فيه اعتمادها على الشعب الفلسطيني والحلفاء الحقيقيين متدنياً وهامشياً. لم تبن الحركة الوطنية العامل الذاتي بمقومات تُصعّب على المحتلين والأميركان وحلفائهم العرب تقديم مشروع بديل ونقيض للمشروع الوطني «كصفقة القرن». هنا يمكن القول إن التعويل على الثالوث ( الأميركي الإسرائيلي العربي الرسمي) هو الوهم وليس المشروع الوطني المؤيد من أكثرية شعوب ودول العالم هو الوهم.
الآن وبعد التجربة من المنطقي التحرر من الوهم وليس من المشروع الوطني. إذا كان الحلف غير المقدس يملك مشروع تصفية القضية الفلسطينية، فلا سبيل الى مقاومته ومنعه، بدون مشروع وطني واقعي قابل للتحقيق في المدى المباشر او المتوسط، وهو مشروع الدولة الفلسطينية الذي قبلته أكثرية دول العالم، طبعاً بدون القضاء على اسرائيل أو هزيمتها عسكرياً.
لم يقرأ د. نسيبة التحول في الموقف العربي وتحديداً الموقف الذي عبرت عنه جامعة الدول العربية، ولم يتوقف عند تسارع اصطفاف دول خليجية مع ترامب ونتنياهو، واعتمادها الفعلي على حل صفقة القرن العدمي منسوباً للحقوق الوطنية المشروعة الفلسطينية، مكتفياً فقط بعبارة ( تشقق مواقف الدول العربية بخصوص متلازمة السلام والتطبيع)، ومعتبراً هذا الموقف منتهياً، مع انه من صنع ترامب وفريقه الملتزم بأيديولوجيا ارض اسرئيل، حيث من المحتمل وضعه جانباً إذا ما سقط صانعه ترامب في انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني القادم. التسليم ببقاء النظام الدولي على حاله وببقاء النظام العربي على حاله وببقاء مخرجاتهما في المرحلة الترامبية على حالها يتعارض مع قانون الثابت والمتغير، ويغلق كل الأبواب على التغيير على قاعدة ان ما جرى هو نهاية المطاف. وهذا لا يعني إعادة بناء أوهام جديدة وإنما مقاومة الصفقة، والعمل على إسقاطها كواجب وطني من الدرجة الأولى.
اعتبر د. نسيبة أن المقاومة بكل أشكالها لا تغني ولا تسمن من جوع. وهنا لم يميز بين مواجهة غير متكافئة ومقاومة مسلحة مرتجلة تؤدي الى التهلكة، وبين مقاومة شعبية واحتجاجات سلمية ضد النهب والسرقة والقمع وصناعة الوقائع الاستعمارية ومصادرة الحق في تقرير المصير، فالصمود هو الثابت تاريخياً في تجربة الشعب الفلسطيني وهو ساري المفعول لطالما لم يستسلم الشعب الفلسطيني ولم يعتمد الرواية الاستعمارية، وهو ما حدث ويحدث على امتداد قرن ونيف.
الصمود ليس عنواناً ولا لغزاً ولا هو فقط «قوة الأشياء» بلغة الشعر، الصمود معركة سياسية في الداخل والخارج على أهداف وطنية، ومعارك حياتية على الأرض. وإذا أردنا الإفادة من درس الاعتماد والتعويل على الدور الأميركي أساساً وعلى الموقف العربي الرسمي ثانياً وعلى الموافقة الإسرائيلية ثالثاً، فقد ترتب على ذلك وجود بنية سياسية وإدارية واقتصادية فلسطينية مهلهلة ومنفصلة عن أكثرية الشعب. وبعد ان تمخض الاعتماد على هؤلاء «حل الصفقة» العدمي، او كما يقول المثل «تمخض الجبل فولد فأراً». بعد الانكشاف الساطع للحل الاميريكي، اصبح المطلوب، الخروج من المسار ومن بنيته الفلسطينية، أصبحت الحاجة ملحة لبنية جديدة على أسس جديدة، قوامها القطاعات الأوسع من الشعب، ليس بالمعنى الاستخدامي وإنما بالمشاركة وعبر تلبية مصالحها واحتياجاتها.
وهذا يستدعي إعادة النظر بالسياسة الاقتصادية النيوليبرالية الريعية التي ساهمت في خنق أكثرية المواطنين، لصالح سياسة تطوير الموارد من داخل المجتمع واعتماد العمل المنتج والعودة للزراعة، وتوظيف الأموال بعيداً عن تضخم العقارات (البناء) وانتشار المولات والكوفي شوب. أصبح مطلوباً إعادة النظر في منظومة القوانين البائدة لصالح قوانين منسجمة مع مصالح الناس الفعلية. وثمة حاجة الى قانون عمل لمصلحة عموم الشغيلة، والى قانون ومؤسسة ضمان اجتماعي يرعى مصالح العاملين بدلاً من استبعاد وإسقاط قانون ومؤسسة الضمان لمصلحة أرباب العمل. وثمة حاجة الى نظام تعليمي تحرري يزيل القيود عن عقول أجيال المستقبل، ويحول المدارس الى رافعة لتطوير المجتمع باستخدام العلوم، بحاجة الى مؤسسات حكومية وغير حكومية فاعلة وديمقراطية تستجيب لمصالح الفئات التي تدعي تمثيلها وتلتزم الديمقراطية من خلال التناوب على رئاسة المؤسسة وإدارتها – بدلا من مسؤولين ومسؤولات الى ما لا نهاية- ولا حاجة لهذا العدد الفائض عن الحاجة من الوزارات، ومن المؤسسات التي بمستوى وزارات ولا تفعل شيئاً – .
بحاجة الى قانون أحزاب يضع نهاية لنظام «الكوتا» ولهيمنة التنظيمات على الاتحادات الشعبية والمنظمات النسوية التي تحولت الى شاهد زور، بحاجة لهيئة مستقلة لمكافحة الفساد وللنزاهة تطارد الفساد والفاسدين بأثر رجعي، وهيئة رقابة مستقلة ذات معايير مهنية صارمة. بدون ذلك لا نستطيع الصمود ولا إحراز التفوق المعنوي والأخلاقي والسياسي، ولا المنافسة على التطور ولا تجاوز حالة الإحباط واليأس، بدون ذلك لا نستطيع مقاومة مشاريع تصفية قضيتنا وتهديد وجودنا.
إن حديث د. نسيبة عن «حيلة للاستمرار في استنشاق الهواء، والحاجة للعثور على الثغور التي نستطيع من خلالها النفاذ للحفاظ على النفس، يتحول الى لغز ما لم يرتبط بمهمات وواجبات ملموسة. إن الدعوة الى «تحسين ظروف الحياة والصمود والكفاح ضد النظام الاستعماري وانتزاع الحقوق والتمسك بوحدة الشعب وبالمنظمة، والمستقبل الذي يكفل البقاء والعودة والمساواة، كما يقول د. سري، هذا الكلام العام الذي يصلح لكل مكان وزمان لا معنى له بمعزل عن طرح مهمات ملموسة، بدون إعادة بناء البيت الداخلي الفلسطيني لبنة لبنة وفي كل المجالات. كما أن القفز عن المشروع الوطني بدعوى فشله، يضعنا في فراغ ويساعد المشاريع النقيضة (صفقة القرن) لملء الفراغ، كما يساعد على ممارسة الضغوط المختلفة لفرض تراجعات فلسطينية إضافية.