بقلم : مهند عبد الحميد
كلما وقع ناظري على مقال مترجم للكاتب الإسرائيلي وداعية السلام جدعون ليفي أسارع الى قراءته بتركيز وحماسة، ويعود ذلك لانحيازه الى الضحايا وحقوقهم، وإلى نقده للاحتلال وانتهاكاته وجرائمه بشكل صريح وغير ملتبس. ويعود ايضا الى اهمية ان يكون إسرائيليون، أفراداً وجماعات، في صف الشعب الذي تحتله دولتهم وجزءاً من عملية الخلاص من الاحتلال. مواقف ليفي المناهضة للاحتلال تبعث على التفاؤل باقتراب الوقت الذي يتحرر فيه الشعب الفلسطيني من أطول الاحتلالات في زمننا، ولا شك ان التحرر الفلسطيني يرتبط ايضا بتحرر المجتمع الاسرائيلي من الاحتلال. فالذي يقمع ويمارس التمييز ضد شعب آخر، والذي يسرق الموارد والارض، والذي يعذب سجناء الحرية. من يفعل ذلك لا يمكن ان يكون حراً او إنساناً سوياً.
هذا يفسر التحولات نحو التطرف والتزمت القومي والديني الاسرائيلي، يفسر التضييق على منظمتي «بيتسيلم «و»لنكسر الصمت» ومحاولة تقييدهما بقوانين، ويفسر خضوع جدعون ليفي وامثاله من المعارضين لسياسات الاحتلال للحراسة خشية ان يتعرضوا لاعتداءات قد تمس بحياتهم، ويفسر سياسة معاقبة اليونسكو ومجلس حقوق الانسان والجنائية الدولية ومعهم غولدستون صاحب التقرير الشهير الذي اتهم دولة الاحتلال بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات بحق الابرياء في قطاع غزة. لا تكتفي اسرائيل بخراب داخلي وانما تنقل الخراب الى خارج منطقة الصراع، فيكفي ان تقدم منظمات الاختصاص الدولية تقارير عن الانتهاكات الاسرائيلية حتى توضع على القوائم السوداء المطروحة لاشد انواع العقاب. فهذا الجلاد مقدس ولا يضاهيه غير الجهل المقدس قد يكون الكلام عن اهمية وجود اسرائيليين في موقع معارض للاحتلال وجرائمه غريباً لدى قوى وايديولوجيات عديدة، لكنه منسجم مع قواعد الصراع بين المستعمرين والشعب الذي يستعمرونه سابقاً والآن. صحيح ان هذه المعادلة تتعرض للعصف والشطب وللتجاهل كأضعف الايمان، لكنها كمبدأ ما يزال وجودها ضرورياً.
هناك مصلحة للطبقة الحاكمة الإسرائيلية المسيطرة اقتصاديا في بقاء احتلال ومصلحة للمستوطنين والمؤسسة العسكرية وكبار المستثمرين والمضاربين وشركاتهم. هؤلاء تلتقي مصالحهم ايضا مع فرض علاقات تبعية على شعوب المنطقة ومع الأنظمة الفاسدة والمستبدة ومع التوحش الكوني الذي فاقمته الظاهرة الترامبية. هذه الطبقة شكلت المجتمع الاسرائيلي في موقع المعسكر الرجعي. مقابل ذلك هناك نخب ثقافية واكاديمية واجتماعية تلتزم حقوق الانسان وترفض الاحتلال وتعتبر الاستيطان قاعدة للتحولات الرجعية وللعنصرية. لكن كفة المستعمرين وثقافتهم هي الراجحة. وفي المحصلة لا يمكن فرض التراجع بحده الادنى والاقصى على الحكم الاستعماري ونظام الفصل العنصري بمعزل عن نمو القوى الاسرائيلية التي لها مصلحة في تغيير نظام الحكم الاستعماري، ولها مصلحة في دعم الخلاص الفلسطيني من الاحتلال والتمييز والهيمنة. هذا ما حدث في فرنسا الجزائر/ وجنوب افريقيا /وفيتنام اميركا /وغير ذلك من تجارب.
لا يقبل النظام الاستعماري الاسرائيلي وهو في كامل قوته، الانتقال من حل الدولتين الى حل الدولة ثنائية القومية. فالذي يرفض التنازل الجزئي بتراجع الاحتلال مع بقاء علاقات تبعية وهيمنة أمنية واقتصادية، لا يقبل بحقوق على قدم المساواة مع الشعب الفلسطيني المرشح للتحول الى اكثرية عددية بمفهوم الخطر الديمغرافي، حقوق متساوية في امتلاك الموارد اقتصاديا، والحق في العودة وفي تغيير وظيفة الدولة من دولة استعمارية مهيمنة الى دولة مسالمة ومنفتحة على شعوب المنطقة، من دولة متحالفة مع قوى الاستبداد والرجعية الى دولة تعيش بسلام مع شعوب المنطقة.
في مقال جدعون ليفي محط الخلاف الذي يدعو فيه الفلسطينيين الى عناق الضم بعنوان «عانقوا الضم» العناق ليس له اي تفسير آخر غير قبول الضم او تمريره. معتبراً الضم الاسرائيلي للضفة مخرجاً عملياً للوضع القائم المأساوي المركب على حل الدولتين. ويرى ليفي أن إنهاء الغطاء الذي تمثله الدولة الفلسطينية للوضع القائم ودخول اسرائيل في عهد جديد من الابارتهايد يجعلها في وضع صعب. إنه يرى في ذلك تورطاً لاسرائيل. واذا كان هدف المشروع الاستيطاني هو تدمير مقومات الدولة الفلسطينية ومنع قيامها بأي ثمن. وفي الوقت نفسه بناء مقومات التوسع والنهب والسيطرة المستدامة على الأرض والشعب معا. ماذا تعني معانقة الضم في هذه الحالة ؟ هل تعني مسامحة دولة الاحتلال على كل ما فعلته أثناء عملية التحويل الضخمة التي امتدت اكثر من نصف قرن، كنقل 700 الف مستوطن، بناء جدار فصل عنصري، وإزاحات سكانية- شكل جديد للتطهير العرقي -، قانون القومية ومجموعة القوانين التي تثبت حقوق طرف واحد في الصراع وتنكر حقوق الآخر.
السيطرة على الموارد -مياه وغاز واراض- وحدود وفرض سيادة مطلقة لدولة الاحتلال. ما هو الثمن الذي ستدفعه اسرائيل لقاء هذه الاعمال المعرفة في القانون الدولي والمتناقضة معه جملة وتفصيلاً، والتي برع جدعون ليفي في كشف تناقضها مع القانون الدولي في مقالاته ومحاضراته القيمة. هل سيكون ثمن الوقائع الاستعمارية وتدمير مقومات حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعداً بالجنة عبر يوتوبيا جديدة قديمة اسمها دولة ثنائية القومية ! الا يعني ذلك غض النظر عن التوسع الاستعماري الذي يجسده الضم واغفال لا مشروعيته باعتباره تجسيداً لغطرسة قوة استعمارية؟ وعلى افتراض ان الشعب الفلسطيني قبل بيوتوبيا دولة واحدة بشروط متخيلة أفضل للشعب الفلسطيني، من شروط الدولتين، ما الضمان ان لا تكون المرحلة القادمة بعد الضم مرحلة تطهير عرقي جديد في ظل تجاهل الوقائع الاستعمارية، واغفال اهمية معارضتها ومقاومتها وتدفيع اسرائيل ثمناً لضمها. يتناسى الذين يقدمون الوعد بدولة ثنائية القومية ان وعدهم لا يملك غير صفر مقومات. هل سيعود الشعب الفلسطيني الى بداية صفرية جديدة. لنفترض ان ذلك حدث فعلاً وبدأ العمل ببناء مقومات دولة ثنائية القوميةـ أليس بمقدور دولة وضعت نفسها فوق القانون باعتماد الدول الكبرى تدمير مقومات الدولة الثنائية في مهدها.
اذا كان الثمن الخيالي الذي يقدمه ليفي للشعب الفلسطيني هو دولة ثنائية القومية، بالترافق مع ما معناه عفا الله عما مضى من جرائم الوقائع الاستعمارية والجرائم الخاصة بحقوق الانسان والسيطرة على الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقه في تقرير مصيره. ولا ينسى جدعون ليفي بالتكرم علينا بتورط اسرائيلي في ابارتهايد سيلحق بها «افتراضياً» أضراراً فادحة ويعرضها الى عقوبات وعزلة، متناسيا ان الشعب الفلسطيني هو الذي سيعيش مصائب الأبارتهايد بالمعنى العملي، وقد يستمر بحكم ابارتهايد طالما بقي النظام الدولي بهذا المستوى من الانحطاط. وان خبرة دولة فوق القانون التي نجحت في طي صفحة قرار التقسيم 181، وقرار حق العودة رقم 194، وقرارات التراجع عن ضم القدس والاستيطان وقرار فك جدار الفصل العنصري والتراجع عن فك الإدارة المدنية وكل شيء يحتمل الإيجاب في اتفاق أوسلو الهزيل. هذه الدولة العميقة لا يعوزها كبير جهد لالغاء دولة ثنائية القومية في المهد او استخدامها لتثبيت الوقائع الاستعمارية.