«لا دليل مادياً على تورط قيادة حزب الله وسورية» في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وهذا نتيجة القرار الاتهامي الصادر عن المحكمة الدولية في لاهاي في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، والذي كان وقعه عاصفاً ومحبطاً في الشارع السني والمستقبلي، وجمهور الرابع عشر من آذار المسمرين أمام التلفزيونات وشاشات هواتفهم، بعد خمسة عشر عاماً من الانتظار الثقيل للعدالة الدولية والحقيقة، وكانت تتهيأ لحكم بمستوى اغتيال الرئيس الشهيد، وكلفة وصلت المليار دولار تكلفة إنشاء المحكمة الدولية.
الضحية الثانية، لا تزال تستقر تحت الأنقاض، الحكومة العتيدة التي كان ثمة من يظن بقدرة ولي الدم، سعد الحريري، على استثمار نتائج قرارات المحكمة في صياغة تصورها القادم. هنا، كان الرهان واضحاً على إخراج «حزب الله» من المعادلة الحكومية أو من أي تمثيل حكومي مقبل سنداً لمفاعيل قرار المحكمة. ولكن قرارها، انتزع مخالب «الغارة السياسية» التي أراد سعد الحريري، شنها على «حزب الله» على خلفيات قرار «المحكمة»، حيث كانت توقعات فريق سعد الحريري تشير إلى إدانة أربعة متهمين من «حزب الله»، وليس إلى مدان واحد هو سليم عياش.
هناك على الطرف السياسي من يدعو لاستمهال الحريري «حتى يستيقظ من الصدمة!»، الصدمة القانونية التي من المفترض أنه سيبني عليها صدمته السياسية، والتي سيشد بها عصب الجمهور السني المنفرط.
كان سعد الحريري يريد ربط المسارات بين القرار الدولي بمحكمة والده، وتفجير المرفأ وتشكيل الحكومة العتيدة، بمعنى استجرار وصاية دولية معطوفة على تحقيق دولي، وتدويل كامل للأزمة من بوابة المرفأ لهدف واحد، «ليّ ذراع حزب الله داخلياً وانتزاع تنازلات منه تظهره بمظهر الضعيف».
في حين كان يُدرك «حزب الله» في سرّه، أن الحريري نزولاً عند الظرف الراهن، لن يجد مصلحة في استثمار قرار المحكمة بما هو خلاف التقني منها، بل سيحوّله إلى فرصة سياسية تعزز من شروطه السياسية، أي بمعنى آخر سيبيع المخاطر الأمنية الناتجة عنه بنية شراء التهدئة السياسية التي تخوله دخول السراي الحكومي من جديد.
لكن بيان الحريري، الذي أذاعه من لاهاي عقب صدور الحكم، كان مرتبكاً، وتفوح منه غصة. إنها واحدة من نتائج الصدمة من القرار، التي فرضت على الأرجح على الحريري تغيير مضمون خطابه المدون على الورق!
وقال الحريري، في بيانه، إثر صدور الحكم في لاهاي: «إنه يتقبّل الحكم على الرغم من تبرئة ثلاثة من المتهمين من صفوف حزب الله، داعياً الأخير إلى التعاون في مسألة تسليم المُدان عياش إلى المحكمة. فرد الحزب بتعليق صورة لسليم عياش في بلدته الجنوبية حاروف وكتبت عليها «المقاوم».
في النهاية، أعلنت المحكمة الدولية أن سليم جميل عياش القيادي في «حزب الله» هو من شارك ونفّذ المؤامرة التي أودت بحياة الحريري إلى جانب 21 ضحية سياسية أخرى، ولم تتهم بشكل واضح أي جهة أو نظام.
وهو ما يبرّره حقوقيّون بأنّ اختصاص المحكمة الخاصة لا يشمل محاكمة أو إدانة الدول والمنظمات، إّنما يبقى محصوراً بتحديد المسؤولية الجنائية للأفراد، وفق نظامها الذي تمّ التصويت عليه في مجلس الأمن الدولي، وفق هذه الصيغة التي فرضتها كل من روسيا والصين.
كما أعلن المدعي العام أمام المحكمة الدولية تبرئة المتهمين الثلاثة حسين عنيسي، أسد صبرا وحسن مرعي، المنتمين لـ»حزب الله»، لعدم كفاية الأدلة. ومعروف بدقة أن عدم كفاية الأدلة لا يعني عدم وجودها. لذلك أوضحت المحكمة أن هذه العملية احتاجت إلى قدرات كبيرة، لتقول تالياً: إن عياش لم يكن وحيداً بل عاونته مجموعة موثوقة، ما يثبت أن شبكة منظمة قامت بتنفيذ جريمة الاغتيال.
إلا أن غرفة الدرجة الأولى رسمت السياق السياسي والتاريخي الذي اغتيل الحريري في حمأته، والحيثيات التي رافقت الحكم أكثر أهمية من الحكم ذاته، أبعد من ذلك، كشف أي جريمة يتم من مجموعة أسئلة أهمها، كيف؟ لماذا؟ ومن المستفيد؟ لذلك ذهبت المحكمة إلى ربط اغتيال الحريري بحدث سياسي مناهض للاحتلال السوري في لبنان، وهو إرسال الحريري موفدين عنه إلى «لقاء البريستول» المعارض، حيث صدر أعنف بيان ضد الوجود السوري في لبنان.
وفي سياق «اتهامي» لـ»حزب الله» وللنظام السوري في آن، لفتت المحكمة إلى استفادة سورية و»حزب الله» من اغتيال الحريري، وإلى أن الاغتيال هو عمل إرهابي نُفذ لأهداف سياسية لا لأهداف شخصية، وشارك بتنفيذه العشرات، وان كان الكثير منهم على غير علم بطبيعة العمل.
وأوحت المحكمة، بما لا يقبل الشك، أن رستم غزالي، المسؤول السوري الأرفع في لبنان حينها، كان، أقلّه، على دراية باغتيال الحريري، ولذلك أصرّ أن يتقاضى، يوم الأحد الذي سبق إثنين الجريمة، دفعة مزدوجة من تلك الدفعات التي كان يتقاضاها، شهرياً، من الحريري «خاوة».
والصدمة لم تتوقف هنا، إذ إن هذه الغرفة أعلنت، بما لا يقبل الشك، أن رفيق الحريري قبل اغتياله كان يخضع لمراقبة لصيقة من الأجهزة الأمنية اللبنانية. هذه الأجهزة الأمنية التي قال الحكم عنها: إنها في التحقيق البدائي عاثت فساداً في مسرح الجريمة وعبثت بالأدلة.
لقد أسقطت المحكمة فرضية الجماعات التكفيرية التي سقطت مع جزم المحكمة بأن قصة أبو عدس «فيلم مركب بايخ» وكذلك توجيه الاتهامات نحو طرابلس.
وعلى كل الأحوال، فمنذ الساعة الأولى لجريمة اغتيال الحريري، كان الجو العام الدولي كما المحلي قد حسم بالفطرة دوافع الاغتيال وأسبابه والجهة التي تقف وراءه، انطلاقاً من القاعدة القانونية في كل جريمة: فتش عن المستفيد. لذلك كانت كل الأصابع تشير إلى النظام السوري.
هكذا يمكن القول: إن المحكمة الدولية قالت الكثير، وهي «التفت» على قانون إنشائها من خلال الحيثيات التي قدمتها في حكمها، والذي اتهم «حزب الله» والنظام السوري باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري من دون أن تقول ذلك بشكل مباشر.
ويُشاع في أكثر من محفل، أن الأجواء التي وفّرها انفجار مرفأ بيروت على المستوى الدولي، أتاحت وظائف لم يكن قرار المحكمة في وارد توفيرها. الآن، ثمة وجود لأساطيل أطلسية، ولجان تحقيق شبه دولية وحضور دولي واضح في المشهد اللبناني.
ولكن هل انتهت رحلة العدالة الدولية مع صدور حكم الحريري؟ وماذا إذا ما تمنعت الدولة اللبنانية عن تنفيذ الحكم الدولي بتسليم عياش؟ كيف سيتصرف مجلس الأمن عندها.