عن الخوف الوجودي

عن الخوف الوجودي

عن الخوف الوجودي

 لبنان اليوم -

عن الخوف الوجودي

عبير بشير
بقلم - عبير بشير

يقف الإنسان مصدوماً أمام ضعفه، يعتقد طوال الوقت أنه مسيطر وقابض على زمام أموره بشدة، يدير دفة أيامه كما يشاء، إلى أن تأتي جائحة تضعه أمام نفسه، ويشاهد حجمه أمام تدابير الكون، فتعتقله داخل منزله الصغير، في أكبر أزمة رهائن عبر التاريخ، دون أن يجد الإنسان من يفاوضه،
فتتغير نظرته للأشياء، التفاصيل اليومية المملة أصبحت مطلباً وأمنية...ساعات العمل اليومية في المكتب، طوابير الانتظار، التسكع في الأسواق المكتظة، ويكتشف المعتقل أن الآخرين ليسوا زواراً ثقيلين، بل إنهم من صلب تفاصيله اليومية التي ستبدو كئيبة وموحشة في غيابهم.
في العزل، تصادق الوحدة والهدوء كما لم تفعل من قبل، تفكر أكثر وتتدبر العالم من حولك.
يتحدث مصمم الأزياء العالمي اللبناني إيلي صعب، عن تجربته في الحجر الصحي ببيروت، وهو يرى أنها بكل علاتها وسيئاتها، وحالة الخوف الوجودي، التي اعترته، كانت فترة تأمل إيجابية بالنسبة له «فهي فرصة لاكتشاف ما في دواخلنا من روحانيات وفرصة للراحة والجلوس مع العائلة، بعدما كنا في سباق مع الحياة، وتمضي السنوات بين المطارات والاجتماعات، سنوات النجاح والركض بلا رحمة، فتنسى نفسك وتنسى روحك».
الجوائح أيضاً تجعلنا نقع في فخ الخوف والرهاب والقلق المستمر. مَن منا لم يشاهد أفلام الكوارث والأوبئة؟ ومن منا لم ير كيف يتحول ابن آدم إلى وحش بشري بعد أن يتملكه الخوف، فتظهر غريزة البقاء «أنا ومن بعدي الطوفان» في دواخلنا؟ هذا ما نقلته شبكات التلفزة في متاجر لندن ونيويورك الكبيرة، فترى الأرفف فارغة والناس تتدافع للاستيلاء على ما استطاعت من بضائع.
في زمن «كورونا» الخوف هو المواطن الأول. الخوف على حياتك وحياة عائلتك، الخوف من قاتل سري ومتجول. الجيوش التي تخيف عادة وقعت هذه المرة في الخوف. ألغيت مناورات وأوقفت تدريبات، بعدما اقتحم الزائر الوقح ثكنات الجيوش، وغرف الأساطيل، وبتنا نرى آلاف الأشخاص المذعورين بعضهم من بعض وهم يضعون كمامات على وجوهم في الشوارع والأسواق والمطارات.
وحينما تشاهد فيلم «عدوى» ستفهم كيف يعيد الوباء صياغة سلوك الناس ، وكيف يغير نظامهم الاجتماعي، وحسب الفيلم، فإنه حين يسيطر الوباء، تتحول الجموع المذعورة إلى قوة كاسحة تدمر كل ما شيدته الحضارة الإنسانية، تجتاح الأسواق، وتقتحم المتاجر، والبيوت، كل واحد يسعى للنجاة بنفسه... ما نعتقده نظاماً أخلاقياً لا يصمد أمام جموع الخائفين من الموت!
الشعور بالخوف من الوباء، يستثير مشاعر متباينة، أكثرها شيوعاً الأنانية والفردية والحذر من الآخرين . ورواية «الطاعون» لألبير كامو، تقدم قراءة مفتوحة على مستويات مجازية متعددة عن كل طاعون ممكن... الأفكار الفاشية، الاستنتاجات الدينية والغيبية المغلوطة، حتى الرأسمالية.
وهنالك إشارات مبكرة على أن الحالة العقلية والوجدانية الجمعية قد تدفع بعض المجتمعات للسقوط فريسة أسهل للهلع، وإلى السقوط في فخ «الهلع الجماعي»، مقارنة بشعوب أخرى. وتعود أولى تلك الإشارات الموثقة إلى القرن الثامن عشر، حيث ربط الطبيب الفرنسي فرانسوا تشيكوين غداة موجة الطاعون الكبرى التي ضربت مارسيليا، بين طريقة تعامل مختلف الفئات السكانية مع الخوف من المرض ومقدار انتشاره بينهم، مدعياً وجود نوع من علاقة متبادلة بين الاثنين: الوباء يسبب الهلع، والهلع يتسبب بانتشار الوباء، وحديثا عرف السبب وذلك لأنه يقف وراء نقصان المناعة النفسية والذاتية.
وربما جاءت نتيجة تعرض الشعب الهندي لجائحة انتشار الإنفلونزا نهاية الحرب العالميّة الأولى التي لم تشهد تفشياً في حالة الهلع وتعامل معها بنوع من اللامبالاة، مقبولة نسبياً، مقارنة بالذعر الشامل الذي أصيبت به شبه القارة الهنديّة بأجمعها لدى انتشار الطاعون نهاية القرن التاسع عشر، وقد عزا المؤرخ البريطاني ديفيد آرنولد ذلك إلى سلوك سلطات الاحتلال البريطانيّة. فقد تسببت سلسلة التعليمات المشددة التي فرضتها السلطات للتّعامل مع وباء الطّاعون بانتشار الخوف والهلع الجماعي بين الهنود، وذلك ساهم في انتشار المرض.
وهناك من يرى أن الأخطر لم يأت بعد، فمع العودة البطيئة للاقتصاد والحياة الاجتماعية في العديد من الدول، رغم أن فيروس كورونا ما زال يصول ويجول، ولكن بوتيرة أقل نسبيا، يبدو أن الحديث عن عالم ما بعد «كورونا» ليس ترفاً.
ويخشى العديد من الخبراء، من أن تؤدي الاستجابة الفوضوية والمرتبكة، لمعظم الدول الغربية في مواجهة فيروس كورونا، قياساً إلى نظيرتها في الدول ذات النظام المركزي والشمولي، مثل الصين وتايوان، إلى خلق مزاج عالمي، ينحو نحو اعتبار أن الأنظمة الشمولية هي الأفضل لمواجهة الكوارث لأنها تستطيع اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة من دون استشارة أحد... إنها غريزة الخوف.
وغريزة «الخوف على الوجود»، هي فلسفة كتاب هوبز «لفياثان»، و»اللفياثان» حيوان خيالي، ذُكر أنه كان يبتلع البشر والمراكب في أعالي البحار، واستخدمه هوبز كرمز لقلق الوجود الكامن في أعماق النفس البشرية، وكمحرك نشط لمشاعر الخوف لدينا.
رأى هوبز أن أي مجتمع يحتاج إلى «غول» كبير ومخيف، يردع الناس عن العدوان على بعضهم. الخوف من الدولة/ الغول هو الذي يحمي الناس من أشكال الخوف الصغرى، وهو الذي يدفعهم إلى تخليهم عن حريتهم طواعية للسلطة الحاكمة أو إلى العبودية الطوعية، مقابل ضمان أمنهم وسلامتهم، في إطار ما يسمى بالعقد الاجتماعي.
الغول الذي يعنيه توماس هوبز هو الدولة. وهو يرى أنها يجب أن تكون مطلقة وقوية كي تردع كافة رعاياها.
أما غول العصر الذي نعنيه فهي «كورونا» أو أي وباء آخر أو أي جائحة.
ونخشى أن لن يجد الناس بأساً في الاستسلام لحكومة أكثر تغولاً، إذا أثبتت قدرتها على دحر غول «كورونا» بعد أن فشلت الحكومات الليبرالية، في احتواء قلق الوجود المهيمن على نفوس الناس.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن الخوف الوجودي عن الخوف الوجودي



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 11:49 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 لبنان اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 17:54 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 لبنان اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد

GMT 21:25 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 06:17 2014 الثلاثاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

السيسي يجدد دماء المبادرة العربية

GMT 09:55 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي سعد لمجرد يُروج لأغنيته الجديدة "صفقة"

GMT 08:41 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

مكياج مناسب ليوم عيد الأم
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon