أخيراً، رفع دونالد ترامب راية الاستسلام، وأعطى الضوء الأخضر لإدارة الخدمات العامة بالبدء في إجراءات نقل السلطة إلى جو بايدن الذي يختصر نسختين أو جيلين من الحالة الليبرالية، جيل عقلية الحزب الديمقراطي المنغلقة عشية حركة الحقوق المدنية ومناهضة حرب فيتنام، وجيل انتخاب أول رئيس أسود ومعارضة حرب العراق والتدخلات العسكرية الخارجية.
وبدأ بايدن توزيع فريق عمله داخل إدارته العتيدة، وهم من الذين عملوا في ولاية أوباما، الذين مُنحت مساحات واسعة لهم في مختلف الملفات الخارجية والداخلية، من الشرق الأوسط إلى الرعاية الصحية. ما يؤشر إلى وجود بصمات واضحة لأوباما على إدارة بايدن المقبلة، بالتوازي مع ورشة خارجية ناشطة لبايدن، لن تتأثر بالورشة الداخلية التي ستشغله، لجهة إعادة توحيد الأميركيين واحتواء تداعيات الانقسام الحاد جراء الحملات الانتخابية العنيفة، إضافة الى ملف «كورونا».
ونشرت صحيفة «الغارديان» تقريرا بعنوان «ظل أوباما..» تحدثت فيه عن تأثير أوباما المحتمل على إدارة بايدن الجديدة، مع استعانة بايدن بصقور أوباما في إدارته، وذكر التقرير أن أوباما الذي توارى عن الأنظار 4 سنوات منذ تولي دونالد ترامب سدة الرئاسة، يعود، الآن، فجأة ليظهر في كل مكان، في التلفزيون والراديو والإنترنت وفي المكتبات.
وفي الحقيقة، لا يمكن تجاهل الدعم الذي حظي به بايدن وهاريس من أوباما، والجولات الانتخابية التي قام بها لصالحهما، خصوصاً في الأسابيع الفاصلة والولايات الحاسمة، تحديداً في بنسلفانيا، حيث رجّحت أكبر مدنها، فيلادلفيا، الكفة للرئيس المنتخب، على حساب الرئيس الخاسر، دونالد ترامب.
وبالنظر إلى لائحة التعيينات، يمكن إدراك حجم نفوذ أوباما على العهد الأميركي الجديد، خصوصاً مع بروز الثلاثي أنطوني بلينكن لوزارة الخارجية، وجايك ساليفان مستشارا للأمن القومي، وليندا توماس –
غرينفيلد، سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة، والذين تبوؤوا مناصب مهمة في إدارة أوباما. وحول الحديث العابر لبايدن، في وقت سابق، عن كونه «رئيساً انتقالياً»، وذلك بتعبيد الطريق لنائبته كامالا هاريس وبدعم كبير من أوباما، لرئاسيات 2024، لقطع الطريق على احتمال عودة ترامب.
لكنْ للرئيس المنتخب بايدن، رأي آخر، فهو يؤكد بأن ولايته الرئاسية لن تكون بمثابة «ولاية ثالثة» للرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان بايدن نائبا له.
«هذه ليست ولاية أوباما الثالثة... لأننا أمام عالم مختلف تماما عما كان في عهد أوباما وبايدن».
وأضاف بايدن، إن «الرئيس ترامب غيّر المشهد»، وأن الوضع كان عبارة عن «أميركا لوحدها» وليس «أميركا أولا» خلال فترة رئاسة ترامب.
على كل حال، يبدو بايدن بفريقه الجديد - القديم، عازما على تغيير مسار السياسات الأميركية، بعد 4 سنوات من عهد ترامب الذي رفع شعار «أميركا أولاً». فمن وجهة نظر بايدن، إن هذا الشعار دفع الولايات المتحدة إلى الانعزال عن العالم، خصوصاً بفعل انسحاب ترامب من اتفاقيات عالمية عدة، وينوي بايدن إعادة العمل باتفاق باريس للمناخ، وقد عين جون كيري، كمبعوث رئاسي لشؤون المناخ.
وفي الواقع، أرسى بايدن بتعييناته، المداميك الثلاثة التي ستحمل بنيان سياسته الخارجية وهي: بلينكن، وجايك ساليفان، وليندا توماس، وهي تعيينات تفوح منها شخصية أوباما وأسلوبه في العمل.
والواضح، انّ السياسة الخارجية الأميركية ستعود الى الأسلوب التقليدي أي الارتكاز على علاقات دولية قوية، وهذا ما يريح أوروبا. ذلك ان بلينكن يؤمن بتعددية القرار العالمي، ولكن تحت القيادة الأميركية، وهذه السياسة كان ينبذها ترامب ويعمل على نسفها من أساسها.
وسيسمح وجود بلينكن بإعادة رسم خريطة طريقة جديدة مع الاتحاد الأوروبي ومع حلف شمال الأطلسي، بعد سنوات صدامية مع ترامب، تحديداً في ملفي التجارة مع الأوروبيين، والنفقات الدفاعية مع الشركاء الأطلسيين.
ويرى بلينكن أن تجربته كحفيد لجدّ بولنديّ يهودي ناجِ من المحرقة النازية، من أبرز المحفزات لتكوين مسار سياسي، ينتهج «التعددية» في إدارة مختلف الملفات. ويشبه بلينكن أوباما بعض الشيء في منطق «التعددية»، لأن الرئيس الأسبق، المولود من أب كيني وأم أميركية من أصول إنجليزية، شرح مراراً تأثير انتماء والديه إلى عرقين مختلفين، وانعكاسه على شخصيته، ونموّه الحقوقي والسياسي. وقيل إن بلينكن هو الوحيد الذي حضر كل الاجتماعات في البيت الأبيض برئاسة أوباما في الولايتين الرئاسيتين.
وكما هو معلوم، سيسعى بايدن إلى إنقاذ الاتفاق النووي مع إيران، الذي ركله ترامب، وهو يحتاج إلى وزير خارجية متمرس، لا يشبه ريكس تيلرسون، الذي فشل في صياغة أسلوب يمزج بين الترويج لمنطق ترامب في الخارج والواقعية المفترض أن تتحلّى بها الدبلوماسية الأميركية ولا يكون نسخة عن مايك بومبيو، الوقح - ضيف المستوطنات -.
لكن الشرق الأوسط تغير كثيراً خلال السنوات الأربع الأخيرة، وهو لن يعود كما كان. وبالتالي فإن العودة الى المسار السابق يجب الا يهمل المستجدات، وهو ما على فريق بلينكن إدراكه، ففي الملف الإيراني، سيأخذ كمنصة انطلاق الإضافات التي حققها دونالد ترامب خلال السنوات الماضية، وبالتالي لن تكون، بالنسبة الى هذا الفريق، عودة تلقائية او أوتوماتيكية الى الملف النووي السابق.
وتتماشى هذه الفكرة مع مقال كتبه بايدن في وقت سابق ومفاده أنه «لا يُشكّك في حقيقة التحديّات التي يفرضها النظام في إيران على المصالح الأمنية للولايات المتحدة، وأصدقائها وشركائها وشعب إيران نفسه».
ولكن الأهم لنا كفلسطينيين، مقاربة بلينكن للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ومدى التزامه بحل الدولتين، ورؤيته لـ»صفعة القرن»، واتفاقات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل.
وليس بعيداً عن بلينكن، يبرز اسم ساليفان، الذي اختاره بايدن لمنصب مستشار الأمن القومي، وارتباط اسمه بالمفاوضات الأميركية مع إيران في مرحلة الاتفاق النووي في عهد أوباما. لكن ساليفان بدا حذراً حيال العودة الأميركية للاتفاق النووي، مشدّداً في حديثٍ صحافي على أن «بايدن سيقدم لحلفاء الولايات المتحدة، الدعم اللازم للتفاوض على تفاهم إقليمي واسع مع إيران».
وهناك نقطة ممكن أن تعتبر مخالفة لتوجهات أوباما، وهي أنه ليس من المرجح أن يتوجه بايدن نحو آسيا، على حساب الانسحاب من قضايا الشرق الأوسط كما فعل أوباما. ففي ولاية أوباما الأولى، وقف أمام البرلمان الأسترالي، حيث رسم رؤيته لميل الولايات المتحدة نحو آسيا. بدت لهجته متفائلة: الصراعات في أفغانستان والعراق كانت على وشك الانتهاء، والحرب تنحسر، قال أمام المشرّعين في كانبيرا. إن هذه التطورات ستسمح لواشنطن بتحويل تركيزها بعد عقدٍ خضنا فيه حربَين كلَّفَتا الكثير من الدماء والأموال، تُحوِّل الولايات المتحدة انتباهنا إلى الإمكانات الهائلة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
الاستدارة نحو آسيا، أثبتت كما بات معروفاً، أن ثقة أوباما في قدرته على تحويل عمل جهاز السياسة الخارجية مبالغ فيها. كما أن الاستدارة نحو آسيا كانت فكرة جيدة، لكن إخراجها لم يكن بهذا القدر.