بقلم : عبير بشير
بعد عامين من توليه الحكم في روسيا -الكسيرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- احتد بوتين في وجه العالم قائلاً: «نحن قوةٌ عالمية، ليس لأنّنا نمتلك قوة عسكرية عُظمى وقوة اقتصادية محتملة فقط، بل نحن كذلك لأسباب جغرافية، سوف نظل موجودين في أوروبا وآسيا، في الشمال والجنوب».
وفي توقيت مهم للغاية، ومحمل بالدلالات، وقبل ستة أشهر من انطلاق الانتخابات الرئاسية الروسية في 2012، قدم فلاديمير بوتين أطروحة للمستقبل السياسي لبلاده.
ففي مقالته التي نشرتها صحيفة إزفيستيا الروسية، كشف بوتين عن مشروع تكامل سياسي يضم الجمهوريات السوفياتية السابقة، بحيث يؤدي هذا المشروع إلى خلق كيان دولي جديد متعدد الأطراف يسمى «الاتحاد الأوراسي».
واقترح بوتين نموذجاً من تكتل فعال من الدول، قادر على الارتقاء إلى مصاف الأقطاب الدولية العظمى، تكون لديه القدرة على تشكيل حلقة وصل متينة بين أوروبا من ناحية وإقليم آسيا – المحيط الهادئ المتمتع بدينامية نابضة.
وفي سبيل تكريس روسيا لنفسها كقوة عظمى على الساحة الدولية، سعت روسيا في «استراتيجيتها الأوراسية» إلى استخدام كل ما لديها من عناصر قوة، ابتداءً من موقعها الإستراتيجي الذي يغطي جزءًا من أوروبا وقسمًا كبيرًا من آسيا، وكذلك امتلاكها لثروات طائلة، وقوة عسكرية جبارة، ونفوذ سياسي متعاظم، وطاقات علمية كبيرة، وتراث حضاري، وحضور طاغٍ على الساحة السوفييتية السابقة، من أجل بناء هيكلية تكاملية أوراسية بمشاركة دول أخرى آسيوية من الدرجة الأولى. وهذه المرة يترسخ الصعود الروسي عبر رؤية واقعية متحررة من البعد العقائدي، أي لا تحكمها أيديولوجية مثلما كانت الحال إبان الحقبة السوفييتية.
وروسيا الأوراسية كما يفهمها أهلها، ليست مجرد دولة مترامية على قارتين، بل إنها في نظرهم عبارة عن ملتقى للدروس والعبر التاريخية، التي أسهمت في تذليل التناقضات وعدم الاستقرار والتي شهدتها هذه المنطقة عبر التاريخ، وتتجسد فيها إنجازات الشعوب والقوميات والإثنيات التي تقطن أرجاء المجال الأوراسي. وهذا ما يفسر ظهور النظرية الأوراسية في روسيا في أعمال مفكرين روس في القرنين الماضيين.
لقد انصب اهتمام روسيا تحت حكم فلاديمير بوتين على «أوراسيا» التي وصفت بأنها «قلب العالم»، وهي المنطقة الممتدة من أوروبا وآسيا وحافتها الأفريقية، وتضم ثروات هائلة وممرات اتصال وتجارة برية وبحرية وجوية، فالقوة التي تتموضع في مفاصل «أوراسيا» براً وبحراً وجواً، تضمن الهيمنة عالمياً، ومن ثم يمكن فهم الصراع على المنطقة، من «مشروع مارشال» وحلف «الناتو» الأميركي - الغربي، إلى مشروع «الطريق والحزام» الصيني، إلى «الأوراسية الجديدة» المشروع الروسي الذي يربط موسكو عبر دوائر متداخلة بالدول الآسيوية والأوروبية والشرق الأوسطية والأفريقية، أولى حلقاتها دول الاتحاد السوفياتي السابق؛ بوصفها منطقة نفوذ خالصة لروسيا، أمام التمدد الغربي.
ومنذ مطلع القرن العشرين، أنجبت المدرسة السوفيتية- الروسية في مجال الدراسات العسكرية والجيوبوليتيكية شخصيات أكاديمية ذات صيتٍ عالمي أسهمت بنظرياتها في صياغة التوجّهات الإستراتيجية الكبرى للبلد في أذهان صنّاع القرار الروس. كانت «الجغرافيا» كلمة السر الدائمة في الاستراتيجيات الروسية، فلا يستطيع أي حاكم التغاضي عن ضرورات تأمين أراضيها الشاسعة. ونظروا إلى الديموقراطية والليبرالية والاقتصاد المفتوح بوصفها خطراً، وذلك انبثاقاً من دافعين أساسيين: الحمائية والاستثنائية: تأسيس نظام اجتماعي وسياسي داخلي تكون فيه روسيا علمانية قوية، يمنح الدولة قدرة الدفاع عن مصالحها وكبح العدائيات خارجياً، هكذا ظل «الجيوبوليتيك الدفاعي» استراتيجية مؤطّرة لموقع روسيا في النظام الدولي.
ويعد البروفيسو ألكسندر دوغين العقل الجيوبوليتيكي الأوّل الذي يقف وراء التوجّهات الإستراتيجية الكبرى، لفلاديمير بوتين منذ وصوله للكرملين.
آمن إلكسندر دوغين بالأوراسية الجديدة، بوصفها عقيدة تحمل خلاصًا لكلّ المشكلات التي تُعانيها روسيا، بل خلاصًا لكلّ مشكلات الإنسانية، بنفس الشكل الذي آمن به أتباع الماركسية أو الماوية. بل وادّعى أنّ الأوراسية الجديدة ستكون العقيدة القائدة في المستقبل، التي ستجعل من روسيا قوةً عظمى. وفي سعيه، لمواجهة طموحات الهيمنة الأميركية العالمية، دعا دوغين روسيا، لأن تتجنّب التحوّل إلى مجرّد ملحقٍ للإمبراطورية الأميركية، إذ عليها في نظره أن تسعى إلى إيجاد مراكز متعدّدةٍ للقوة، لا ينبغي أن تكون مرتبطة بالولايات المتحدة وعولمتها، وأن ترى فيها مركزًا، ولكن عليها خلقُ «فضاءاتٍ كبرى» عديدةٍ مُوحّدةٍ عبرَ شبكةٍ من التحالفات بين دولٍ عديدة، ومثل هذا «الفضاء الكبير» من شأنه أن يُنتج مراكز للقوة. يمكن أن تكون دولًا منفصلةً في آسيا تشمل اليابان، والهند، و»إسرائيل»، وبالطبع إيران التي يراها دوغين حجر الزاوية لتحالفات أوراسيا، أكثر حلفاء روسيا أهميّةً إن لم تكن الأهم على الإطلاق. بينما ينظر إلى دوغين إلى الصين باعتبارها حليفًا محتملًا في مواجهة الولايات المتحدة، إلّا أنّه ينظر للصين باعتبارها حليفَ الملاذِ الأخير.
وتصلح «عقيدة بوتين» -أو استراتيجيته- مفتاحاً لفهم توجهات موسكو إزاء الأحداث الإقليمية والعالمية الراهنة؛ استراتيجية معقدة، يرى صناع القرار الروس بلادهم أمة ذات مهمّة حضارية فريدة، مركز قوة وثقافة، لا شرقية ولا غربية، لا آسيوية ولا أوروبية، لكنها «أوراسية» كما يؤمن بوتين، فيما يرى كثير من الروس، بأن الأوراسية، لن يكتب لها النجاح، مؤكدين أنها تحتاج موارد كبرى فيما تعاني روسيا أزمة اقتصادية خانقة، بالنظر إلى تخلف الهياكل الإنتاجية تكنولوجياً.
ولعل بوتين شعر بأن الأوراسية كمشروع متكامل، أصبحت على المحك، مع فوز بايدن بالرئاسة، بعد أن كان سعيدا بوجود شخص مهرج من قماشة ترامب في البيت الأبيض، يقوم بتهميش صورة الولايات المتحدة، وبدفعها إلى الانعزالية.