كل شيء في قصة ترامب كان مسرحاً وضوضاء، حتى الستارة الأخيرة أصر على أن يسدلها بنفسه وعلى طريقته الخاصة بكل الصخب والفجاجة والبلطجة، في مشهد لصوصي وغوغائي وفاشي. ولم تكن غزوة الكابيتول إلا احتفالاً جنائزياً للترامبية يليق بالرجل. ولم تكن غزوة الكونغرس، إلا نهايات شبه متوقعة، من مسرحية بطلها ترامب الذي يتحرك خلال ولايته كقطار لا كوابح.
وكالثور الهائج، رفض الملاكم الخاسر- ترامب-، الاعتراف بهزيمته، ووجه أنصاره من اليمين، لتهميش وجه الدستور ومبناه ونصوصه، رافضاً بند الديموقراطية الأول: قرار الناخبين وخيارهم. وبدت لعبة الاستعانة بالجماهير والغاضبين مفخخة، وقد انفجرت، في ترامب، لقد اختار الملاكم الخاسر ضرب رأسه بعامود الحلبة والكونغرس، لم تأتِ الضربة القاضية من بايدن. لقد وجهها ترامب إلى نفسه، لقد شطب ترامب نفسه في أن يكون رئيساً مرشحاً عام 2024.
ولكن لم يكن ما حدث في مبنى الكابيتول انقلاباً، بل كان تعبيراً عن العجز عن القيام بانقلاب، في دولة مؤسسات.
فهذه أميركا. لا يستطيع أحد أن يدخل البيت الأبيض على ظهر دبابة، على غرار ما كان يحدث في جمهوريات الموز والشرق الأوسط، ويستطيع مجلس نوابها، أن يقر قانوناً بعزل رئيس أميركا، وربما محاكمته جنائياً لاحقاً.
صحيح أن الفترة الممتدة بين انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وغزوة الكونغرس، شكلت سنوات سارت فيها الولايات المتحدة عكس مجرى التاريخ، الذي يسير بخطى حثيثة نحو عولمة كاملة، ولكن غزوة الكابيتول أعادت إيقاف التاريخ على قدميه. وفرملت اندفاعة اليمين الأبيض في الحزب الجمهوري إلى إشعار آخر.
فقد مثل العام 2008 نقطة تحول هيكلية في تركيبة الحزب الجمهوري، فقد خرجت إرهاصات التيار اليميني، والأصولية البروتستانتية، عملياً وبقوة وتشكلت منذ عام 2008، الذي شهد حدثين تاريخيين، أولهما الأزمة الاقتصادية الكبيرة، وثانيها وصول رئيس ملون للبيت الأبيض، وهو ما سهل من وصول التيار الشعبوي، ووصول شخص مثل ترامب إلى الرئاسة أميركا.
وربما أعادنا ذلك إلى قراءة «الديمقراطية في أميركا» للكاتب الفرنسي الشهير أليكسيس دي توكفيل، هذا الشاب الذي قام بزيارة للولايات المتحدة في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، ودوّن ملاحظاته وآراءه في كتابه العميق «الديمقراطية في أميركا»، الذي كان له أثر كبير على القارة الأوروبية. فإلى جانب وصفه الدقيق للنظام السياسي الأميركي آنذاك، فقد أشار بقوة إلى أثر الروح الدينية في هذه الفترة من التاريخ الأميركي التي أوشك أن يؤكد أنها روح تكاد توازي الفكر القومي الأميركي، خصوصاً قوله: «إن أكثر ما لفت نظري الروح الدينية لهذه الدولة، فكلما مضى بي الزمن أدركت أكثر النتائج السياسية المترتبة على هذا الأمر، ففي فرنسا رأيت روح الدين تسير في عكس اتجاه روح الحرية، ولكن في أميركا وجدت الروحين متحدتين بقوة، وحكما معاً هذه الدولة».
وعلى الرغم من أن الأصولية البروتستانتية بدأت نشاطها السياسي والتنظيمي في أميركا منذ وقت مبكر في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنها تعرضت لنكسة بعد 1925.
ولكن بدأت المؤشرات الأولى لصعود نجمهم مرة أخرى في نهاية السبعينات عندما انتشرت في الولايات المتحدة ظاهرة الكنيسة المرئية والتي استفادت من تطور تقنية القنوات التلفزيونية، وراكمت من عديد مشاهديها وأنصارها.
ونظراً لأن الحزب الجمهوري في عقيدته الأساسية يمثل تيار القوى اليمينية المحافظة، فقد وجد عدد من مرشحي الحزب للرئاسة ومنهم الرئيس ريغان وبوش الأب وبوش الابن في القوى الأصولية المسيحية دوائر انتخابية هامة، وأصبحت القوى المحافظة جزءا أساسيا في القواعد الانتخابية للحزب الجمهوري وبرامجهم السياسة والاقتصادية.
لم تكن تلك الأطروحات لتكسب مزيداً من التأييد داخل المجتمع الأميركي الذي يعتز بحريته وديمقراطيته ونزوعه نحو تقليص دور الحكومة الفيدرالية في حياته العامة، لكن الأصولية تكون أكثر نشاطاً وظهوراً في الحياة الثقافية في الأوقات التي تعقب الأحداث تقول الكبيرة، لذلك جاء ريغان إلى الحكم بعد أزمة الرهائن في السفارة الأميركية في طهران والتي ظهر فيها الرئيس كارتر بموقف الضعيف بعد محاولته الفاشلة لتحرير الرهائن.
وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول والتي مثلت أكبر ضربة تهدد الأمن القومي وجد اليمين المحافظ فرصته في دفع المجتمع إلى الاتحاد خلف شعار (محاربة الإرهاب) والتضحية بالمبادئ والقيم الليبرالية التي تمثل أساس المجتمع المدني في الولايات المتحدة.
فترامب لم ينزل من السماء، بل هو ثمرة الديمقراطية نفسها. لم تولد ظاهرة ترامب من فراغ، ولا هو جملة مقحمة على الحقائق الأميركية،
فهو يعبر بخطابه الشعبوي عن ضيق بالغ في المجتمع من الكونغرس وكراهية بالغة له.. لم يخترع ترامب نزعة التعصب ومعاداة الأجانب والمهاجرين والأقليات العرقية، لكنه رفع منسوبها وحرض عليها.
لقد عكس أفكار وتصورات وهواجس قطاعات واسعة ممن يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض، وأنه وحده صاحب الحق الأصيل في الثروة والسلطة..
لقد رأى البِيض صعود الهويات الثقافية للأقليات الإثنية تهديداً لهويتهم، فوجدوا ضالتهم بالكنائس البروتستانتية، وكانت عودة الى التدين في الثمانينات من القرن الماضي، ونشأ «الحزام الإنجيلي» في الولايات ذات الغالبية البروتستانتية البيضاء، وربط البِيض هويتهم بنجاحاتهم الاقتصادية وقوة أميركا العسكرية، وبلغت العصبية المسيحية البيضاء ذروتها مع انتخاب رونالد ريغان، الذي وعد بالعودة الى الماضي الذهبي - أي ما قبل الأقليات - لمحو التعثُّرَين الاقتصادي والعسكري بعد حرب فيتنام. عهد ريغان صاغ هوية اليمين المسيحي الأميركي الأبيض، المتمركز في «الحزب الجمهوري».
ثم جاء ترامب بضحالته الفكرية وشعبويته، ونجح في تخويف قاعدة الحزب الجمهوري من الأقليات أو من الديمقراطيين، وشهدت الانتحابات الرئاسية ذروة انقسام المجتمع بين اليمين واليسار، والمحافظين، والديمقراطيين.
لكن النظر إلى الولايات المتحدة هي أعمق من النظرة السطحية لثنائية الديمقراطيين والجمهوريين، أو الليبراليين والمحافظين. ومن هذا المنطلق، كان لا يمكن التسليم بأن صعود ما يسمى باليمين المحافظ في عهد ترامب، سيستمر لفترة طويلة، إذ كما كان متوقعاً، حفز هذا الوضع القوى الليبرالية والديمقراطية لإعادة تنظيم نفسها والبحث عن دور جديد في ظل شعارات ورؤى جديدة تستطيع من خلالها مزاحمة التيار اليميني المحافظ في صناديق الاقتراع، وتسديد لكمات له، وهذا ما حدث بالفعل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ولذلك من المبكر التنبؤ بنهاية اليمين الأبيض، الذي سيعيد تنظيم نفسه في مجتمع حيوي ومعقد كالولايات المتحدة.