بقلم : عبير بشير
في الأول من شباط 2020، بدأت بريطانيا يومها الأول خارج الاتحاد الأوروبي، بعد مسيرة دامت 47 عاماً في النادي الأوروبي.
وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من استفتاء بريكست الذي أيده 52 في المائة من الناخبين البريطانيين، لتبدأ مرحلة غير محددة المعالم تمثل أكبر تغيير في مكانتها العالمية منذ أفول نجم الإمبراطورية البريطانية، وأشد ضربة لجهود دامت 70 سنة لتحقيق الوحدة الأوروبية على أنقاض الحرب العالمية الثانية.
وللمرة الأولى اختفى علَم بريطانيا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وخسر الاتحاد دولة عضواً، ومعها 66 مليون نسمة.
ويمثل تاريخ خروج بريطانيا، نقطة اللاعودة، فبمجرد أن غادرت بريطانيا الاتحاد الأوروبي، فلن تعود إليه، والباقي تفاصيل.
والأهم فكك هذا التاريخ فكرة روبرت شومان في تأسيس هيئة عابرة للدول الأوروبية، هدفها التقارب الاقتصادي، وتلافي الحروب، والتنافس المدمر في القارة الأوروبية.
فبعد النتائج الكارثية والمدمرة للحرب العالمية الثانية والمخاوف من تكرار نفس السيناريو خصوصا بين فرنسا وألمانيا، جاءت فكرة وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان بشأن إنشاء إنتاج مشترك بين دول أوروبية للفحم والصلب، على أساس أن التضامن الذي سيتأسس سيجعل أي حرب بين فرنسا وألمانيا غير قابلة للتصور، وغير ممكنة من الناحية العملية..وسارع المستشار الألمانيّ كونراد أديناور إلى تقبل الفكرة.. وأعلن شومان من قصر فرساي في العاصمة باريس تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، التي ضمت في البداية كلا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبوغ، وهو ما سيعرف بإعلان شومان الذي ستنبثق عنه فيما بعد المجموعة الأوروبية التي هي نواة الاتحاد الأوروبي».
ودخل الفحم والصلب بشكل أساسي في الصناعات العسكرية، لذلك، ما كان سبباً للحروب الأوروبية أصبح سبباً للتلاقي.
وكان الاتفاق كفيلا بتحويل القارة العجوز من فضاء للحروب الدامية والصراعات التي لا تنتهي إلى أكبر تكتل اقتصادي في العالم يضم 27 دولة بعملة موحدة وبرلمان موحد.
والأهم في تفكير شومان وأديناور، هو التوصل إلى استنتاج جوهري، بأن المصالحة بين الشعوب تتم عبر مبادرات من النخب السياسية تنطلق من أعلى الهرم فيتبعها من هم في القاعدة، ولكن ما حصل مع «بريكست» يبدو أنه رسم نهاية لهذا المسار على الأقل بريطانيا.
«نحن نحب أوروبا، وفقط نكره الاتحاد الأوروبي، هنالك معركة تاريخية تجري على امتداد الغرب، وأميركا: إنها العولمة في مقابل الشعبوية. وقد تشمئزّون من الشعبويّة. لكنّني أخبركم أمراً مسلّياً: إنها الشعبوية» تصبح شعبية».
لقد اختصر رئيس «حزب بريكست» نايجل فاراج في آخر كلمة له، تحت قبة البرلمان الأوروبي، ما رآه أنه أسباب الانقلاب على مسار الوحدة الأوروبية.
ويعتقد البريطانيون أن تأثير بلادهم داخل الاتحاد الأوروبي ضعيف، وفي حال خروجهم من الاتحاد الأوروبي، ستتمكن بريطانيا من التصرف بحرية، والحصول على مقاعد في مؤسسات عالمية، كانت خسرتها بسبب انضمامها للاتحاد الأوروبي؛ كمنظمة التجارة العالمية.
ويبدو أن كثيرا من البريطانيين، أصبحوا على قناعة بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيعلي من صوت القوانين الوطنية البريطانية، وأنه لن تكون هناك سيطرة من قبل القوانين الأوروبية الاتحادية، وهو ما سيساهم في إعادة السيطرة على قوانين التوظيف والخدمات الصحية والأمن.
وفي خطاب تم بثه قبل ساعة من «بريكست»، وصف «بطل» بريكست، رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، هذا الحدث المفصلي بأنه: «لحظة الفجر ورفع الستار عن فصل جديد».
وبصرف النظر عن شخصية جونسون المشاكسة والمثيرة للجدل، والمتهم بالشعبوية، على غرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فقد حانت ساعة بريكست وها هو يحصد ثماره.
فبالنسبة لرجل أراد كطفل أن يصير «ملك العالم»، كما نقلت عنه الصحافة الفرنسية، فقد انتظر طويلاً لحظة الانتصار هذه.
وسيكتب التاريخ اسمه على أنه نجح في قيادة الحملة من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء العام 2016، وبعد ذلك كرئيس للوزراء.
وحقق نتائج كاسحة في الانتخابات النيابية المبكرة التي جرت في كانون الأول الماضي، وأمن أفضل نتيجة للمحافظين لم يحصلوا عليها منذ أيام مارغريت ثاتشر.
ويشكل خروج بريطانيا من الأسرة الأوروبية، نقطة تحول نوعية، فبضربة واحدة، سيحرم الاتحاد الأوروبي 15 في المائة من حجم اقتصاده، كما سيحرم من أكثر الدول الأعضاء إنفاقا على التسلح وكذلك العاصمة المالية الدولية لندن.. ولكنه من المرجح أن لا يكون الخروج نهاية الانقسامات التي مزقت بريطانيا، إذ إن مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي يشعرون بالمرارة، خصوصاً في المناطق التي صوت معظم ناخبيها مع البقاء في الاتحاد، في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية، ويعتقد المعارضون «لبريكست» أنه حماقة من شأنها أن تنسف ما تبقى من النفوذ العالمي لبريطانيا، وتقوض اقتصادها، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تحويلها لمجموعة من الجزر المنعزلة في شمال المحيط الأطلسي.
وكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في رسالة إلى البريطانيين: أنتم تغادرون الاتحاد الأوروبي لكن لا تغادرون أوروبا، ولا تنفصلون عن فرنسا ولا عن صداقة شعبها، فبحر المانش لم ينجح في الفصل بين مصائرنا».
لقد خرجت بريطانيا من الاتحاد الذي انضمت إليه العام 1973، ولكن كي يمر الانفصال بهدوء، ستواصل بريطانيا تطبيق القواعد الأوروبية خلال فترة انتقالية تتمتع فيها بكل مزايا العضوية باستثناء الاسم حتى نهاية السنة الحالية.
وهذا يعني أنه، وباستثناء المعنى الرمزي الكامن في أن تدير بريطانيا ظهرها لـ47 سنة من العضوية في الاتحاد الأوروبي، فلن يتغير الكثير فعلاً حتى نهاية 2020 وهو التوقيت الذي وعد فيه جونسون بعقد اتفاق للتجارة الحرة الواسعة مع الاتحاد الأوروبي أكبر تكتل تجاري في العالم.
ومهما كانت طبيعة الخروج من الاتحاد الأوروبي فإن اقتصاد بريطانيا سيكون أصغر مما كان عليه ضمن التكتل.
وبما أن الحكومة البريطانية ترفض البقاء في الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة الأوروبية، فإنها تختار اتفاق التجارة الحرة معها. وبذلك يكون بوريس جونسون قد اختار الطريق الأصعب.
وخصوصا بأن حالة الوفاق الراهنة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لن تستمر لفترة طويلة، فكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يحاولان اقتطاع مكان منفصل لكل منهما على المسرح العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والصين.
ويتطلع البريطانيون إلى تحقيق مكاسب منفردة، لصالح اقتصاد الجزيرة الإنجليزية ولمسته الناعمة