بقلم : عبير بشير
تبخر الدخان الأبيض الذي كان يبشر بتشكيل حكومة حسان دياب- التكنوقراط- اللبنانية، مطلع العام الجديد، وعادت الأمور إلى المربع الأول، مع ارتفاع «المتاريس» السياسية بين أركان السلطة التي كلفت حسان دياب، والرئيس المكلف. وعراك أهل الحكم، الذي يدور على آخر جزء لم تبتلعه المياه بعد من حسم السفينة تايتانك. بعدما بدت ملامح واضحة لما يشبه انقلاب قوى الثامن من آذار على أنفسهم، وسحبهم الغطاء عن دياب، بعد إعلان حركة أمل عدم المشاركة في حكومة دياب إذا أصر على أن تكون تكنوقراط، وتوجه مماثل للتيار العوني، بعدما وجدوه شرساً في الدفاع عن صلاحياته، على عكس ما كانوا يتوقعون - وفتور حكومي من جانب حزب الله والذي عكسه خطاب نصر الله الأخير- لم يتطرق إلى الحكومة- وذلك لحمل الرئيس المكلف على الاعتذار، وهو ما يرفضه دياب .. على الأقل حتى الآن.
ولم يكن ينقص هذه الصورة الدراماتيكية عن حالة التسيب في الدولة اللبنانية، وعن الوضع المزري للمُمسكين بزمام السلطة، سوى ضربة مدوية لما تبقى من سمعة ومكانة لبنان الدولية مع خسارته حقه بالتصويت، في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بسبب تخلفه لأول مرة في تاريخه عن تسديد الاشتراكات المالية المتوجبة عليه للمنظمة الدولية. لبنان الذي ساهم في تأسيس الأمم المتحدة، وشارك في وضع شرعة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة عبر وزير خارجيته شارل مالك. ولم يعد ينفع تقاذف كرة التقصير والاتهامات بمكبرات الصوت بين وزيري المالية حسن الخليل، والخارجية جبران باسيل، فالواقعة وقعت، وألحقت أفدح الخسائر بسمعة لبنان المعنوية والسياسية.
وبالعودة إلى الاستحقاق الحكومي، فلا شك أن عملية التأليف الحكومي دخلت مرحلة الخطر بعد الزلزال العراقي واغتيال قاسم سليماني، ما دفع الثنائي الشيعي لإعادة قراءة حساباته. وخصوصاً أن هذا الثنائي لم يكن منذ البداية متحمساً لحكومة تكنوقراط، تقصي السياسيين، ولم يكن مرتاحاً لمسار عملية التأليف التي تأخذ طابع السيطرة من فريق التيار العوني، على الحكومة عبر الثلث المعطل.
وقد عكس ذلك، رسائل جماعة بري بعيد تصفية سليماني، التي تحدثت عن خيار «لم الشمل» أي حكومة سياسية جامعة مطعمة باختصاصيين، وبلغةٍ أخرى، حكومة «لمّ الشمل» العنوان الأفظع لمسارٍ حكوميّ منذ التسعينات الذي شكل الغطاء السياسي والراعي الرسمي لكل عمليات النهب وتقاسم الحصص على امتدادِ العهودِ. والمناقضة تمامًا لجوهر تكليف دياب.
وكذلك اللكمات المتبادلة بين القصر الجمهوري والرئيس المكلف، حول توزيع الحقائب، وآلية تأليف الحكومة- مطالبة جبران باسيل بتسمية 9 وزراء من الحصة المسيحية، ووضع اليد على وزارات الدفاع والخارجية والطاقة- وحول صلاحيات رئيس الوزراء، ما دفع بدياب لإصدار بيان، بأن موقع رئاسة الوزراء السني – ليس مكسر عصا- وأنه لن يخضع للتهويل والابتزاز، ولا يمكن لرئيس الجمهورية سحب التكليف منه، الأمر الذي دفع برئاسة الجمهورية لإصدار بيان يشدد أن «الرئيس عون ليس صندوق بريد، وأنه شريك فعلي في عملية تكليف دياب».
وحتى الساعة يبدو سعد الحريري خارج المشهد الحكومي، منذ أن غادر لبنان في إجازته الباريسية، عشية الحديث عن قرب ولادة الحكومة الجديدة برئاسة دياب.
ولكن يبدو الآن، أن الحريري يقف على حافة النهر، منتظراً وصول جثة الحكومة. رغم أن تيار المستقبل لم يشارك في حصار دياب بشكل مباشر، وقرار إعلان الحرب الفعلية على حكومة دياب كان مؤجلا لما بعد تأليفها.
وعمليًا، لم يكن الحريري في إقامته الباريسية بعيداً من تطورات تأليف الحكومة، وكان يتابع باستياءٍ بالغ بورصة التوزيعة الوزارية والاسماء والحقائب. وكان يتوقع عجز دياب عن تشكيل حكومته، أمام حيتان السلطة. وتؤكد مصادر في تيار المستقل أن انسحاب الحريري من عملية التأليف أتى نتيجة الحصار السياسي عليه، وان دياب يعاني عمليا اليوم ما عانى منه الحريري في الحكومات السابقة.
وبعد التأكد من أن ملف تأليف الحكومة أصبح في خبر كان، عادت نغمة جديدة تدور حول عودة سعد الحريري، وتعويم حكومة تصريف الاعمال والغمز من قناة الحريري وتحميله تبعات المآزق السياسية والاقتصادية.
وكل ذلك لا يغير في معادلة الأمر الواقع شيئًا: الحريري بات خارج الحكم حتى إشعارٍ، وأي سيناريو ترويجي عن اعتذار دياب وانتقال مفتاحِ تأليف الحكومة مجددًا الى الحريري لا يخرج حتى الآن عن إطار الضغطِ والتهويلِ.
واعتذار دياب غير مستبعد، وخصوصا أن الرجل ترك وحيدا في غابة ذئاب السلطة، وهو عاجز عن تشكيل الحكومة. لكنه مصر أنه لا إمكانية لإلغاء التكليف ولا مهلة للتأليف. يبقى احتمالان غير الاعتذار، إما أن تعود قافلة الحكومة إلى السير بوجوه تكنو- سياسية أي حكومة لم الشمل على غير رغبة دياب، وإما يذهب حسان دياب إلى تشكيل حكومة على طريقته، ويرفض رئيس الجمهورية التوقيع على مراسيمها، أو أن يستقبلها مجلس النواب بــ «لا ثقة».