في خطوة مفاجئة، زار الرئيس المكلف سعد الحريري السراي الحكومي في بيروت، أمس، حيث التقى رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب، للتضامن معه بعد الادعاء عليه في قضية جريمة انفجار مرفأ بيروت. وبعد اللقاء، قال الحريري: «أتيت إلى رئاسة الحكومة للوقوف مع رئيس الوزراء، ولكي أعبر عن رفضي المطلق للخرق الدستوري الواضح والفاضح الذي ارتكبه القاضي بالادعاء على رئيس الحكومة. الدستور واضح، ورؤساء الحكومات يمثلون فقط أمام محكمة خاصة يشكلها المجلس النيابي. رئاسة الحكومة ليست للابتزاز، من الآخر، وهذا الأمر مرفوض.
لم تبدأ الحكاية هنا، بل بدأت حينما قرر جبران باسيل صهر الرئيس عون بعد صفعة العقوبات الأميركية عليه، نبش الملفات في أكثر من ملف يطاول كبار المسؤولين من سياسيين وأمنيين ووزراء سابقين، في إطار تصفية الحسابات. المواجهة لا تقتصر على موقع رئاسة الوزراء، بل على تيار الحريري وحركة أمل وحزب جنبلاط في ظل تساؤلات عما يمكن أن يحصل إذا استمرت هذه العمليات القضائية وحرب الملفات.
والقصة بدأت، بعدما حشر الرئيس المكلف سعد الحريري بمسوّدته الحكومية رئيس الجمهورية ميشال عون.
لقد غير الحريري قواعد الاشتباك الحكومية. وفي خطوة جريئة، فإن الصمت الذي التزم به الرجل، حرصاً على عدم تسريب أيّ اسم من تشكيلته الحكومية، أدّى في النهاية إلى تسليم الحريري مسودة تشكيلته الحكومية إلى عون.
في خطوته، استعاد الحريري الشعار الذي رفعه بداية، وهو تشكيل حكومة من وزراء اختصاصيين غير حزبيين، وهو أوحى بأنّه لا يستنسخ حكومته من أشكال حكوماته السابقة.
في التشكيلة التي قدمها الحريري، يتبين أن هناك تطوراً مهماً لناحية اختيار الوزراء. فقد سمى لوزارتي المال يوسف خليل، وهو مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان، وهو غير محسوب على حركة أمل ولا على «حزب الله»، كذلك عمل الحريري على استعادة وزارتي العدل والداخلية، من خلال الأسماء التي اقترحها، وهو توجّه يختلف بشكل جذري عن مسعى عون في الإصرار على تحصيل وزارات الدفاع والعدل والطاقة والداخلية لصالحه.
ففي المعلومات التي سربت، أخذ اللقاء بين عون والحريري طابع تسجيل النقاط، على الرغم من كل المحاولات للحديث عن الأجواء الإيجابية. قدم الحريري تشكيلة حكومة كاملة من 18 اسماً بتوزيع الحقائب على الطوائف والقوى. لم تتضمن تشكيلته أي ثلث معطل لأي طرف، وأبقى على خمسة وزراء مسيحيين يسميهم عون، أما وزير الداخلية فقد اختار نقولا الهبر، واعتبر عون خطوة الحريري محاولة لإحراجه. فأخذ التشكيلة الحكومية وقال، إنه سيدرسها. وفي المقابل سلمه عون طرحاً حكومياً متكاملاً أيضاً، يتضمن توزيع الحقائب والوزارات على الطوائف، لكن دون أسماء.
طرح عون مضاد لطرح الحريري. وهي الصيغة التي ارتأى عون استخدامها في إطار الرد على الحريري، وإعادة رمي الكرة في ملعبه، يتجاوز الدستور.
في ردّه المضاد، قال عون للحريري: كما أنت تقدم تشكيلة، فها أنا أقدم لك تشكيلتي. وهذا تجاوز للدستور، وصلاحيات رئيس الوزراء.
على كل حال، لقد رمى الحريري كرته في ملعب بعبدا، وهو يدرك ان حكومة كهذه لن ترى النور، لكنه بهذه الطريقة، وجه رسائل الى الخارج بأنه يتحرك ويسعى انطلاقاً من المبادرة الفرنسية، خصوصا وان الرئيس إيمانويل ماكرون يعتزم زيارة لبنان بعد اقل من أسبوعين.
ويبدو أن ماكرون يتسلّح بـمبادرة ذات وجه أوروبي على أن يكون ناطقاً بلسانٍ أوروبي صرف هذه المرّة. في المقابل، الحريري يُريد المأسسة لحسن استقبال الضيف، بحكومة جديدة، ذلك بعدما منحه ماكرون شرف أن يضمن عدم إصدار أي عقوبات أميركية جديدة ولفترة محددة.
وفي كل الأحوال، لا احد يجهل حجم تأثير الرئيس الفرنسي الذي أظهر نفوذه في مؤتمرين عقدهما برعاية فرنسية – دولية من اجل دعم الحاجات الطارئة للبنان بعد انفجار المرفأ، ولكن هذا الواقع لا يعني ان ميزان القوى في لبنان انتقل كليا لمصلحة فرنسا، وهو أمر لا تنكره باريس التي تعاملت مع الواقع اللبناني من منظور ميزان القوى الفعلي. ولهذه الغاية مدّت باريس، ولا تزال، جسر حوار بينها وبين «حزب الله».
الآن، المهمة ملقاة على عاتق عون، وهذه الأخيرة ترتكز في موقفها السياسي إلى: إما أن توافق مع الأخذ في الاعتبار إجراء «رتوش نهائية» بمعية الرئيس المكلف على التشكيلة فتولد الحكومة في موعدٍ أقصاه نهاية الأسبوع الجاري. أو يُعيد رئيس الجمهورية التشكيلة إلى الحريري «لمزيدٍ من الدرس»، وهذا المرجّح.
ولا يمكن التعويل على أي مرونة رئاسية مفاجئة في الملف الحكومي، أو على تسهيل «حزب الله» لولادة الحكومة، عبر ممارسة الضغط على عون وصهره باسيل، بعدما أخذ الحزب موقفا بالوقوف الى جانب التيار ورئيسه باسيل، خصوصا بعد العقوبات الأميركية التي فرضت على الأخير، ورهانات طهران، ومن ورائها «حزب الله»، على ربط استحقاق التأليف بموعد تسلم الرئيس الأميركي المنتخَب جو بايدن مقاليد الرئاسة في 20 كانون الثاني المقبل.
وهذا يعني عملياً ان عملية شراء الوقت مستمرة، كما الرهانات المحلية على المتغيرات والتطورات الخارجية، فيما الخناق يضيق على رقاب اللبنانيين، ومسألة شراء مزيد من الوقت عبر هندسات ترشيد الدعم وإطالة أمده لا تعدو كونها مسكنات لا تجدي نفعا.