بقلم : عبير بشير
لم يكن مفاجئاً فوز المتشددين بكافة المقاعد البرلمانية الثلاثين في العاصمة طهران في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتصدر القيادي في «الحرس الثوري» وعمدة طهران السابق، محمد باقر قاليباف، الفائزين، ما يعني تغيير تشكيلة مقاعد العاصمة بنسبة 100 في المائة، وهو نفس الحال في سيطرة المحافظين والمقربين من جنرالات الحرس الثوري على البرلمان الإيراني، بواقع يتعدى 230 مقعدا من أصل 290 هي المجموع العام للمقاعد.
وبذلك فان التيار المحافظ أصبح حائزاً على غالبية الثلثين في البرلمان الإيراني، الأمر الذي سيشدد الضغوط البرلمانية على حكومة الرئيس روحاني قبل عام ونصف العام من نهاية ولايته، كما سيتيح للحرس الثوري السيطرة على أي حكومة إيرانية مقبلة.
هذا الفوز لا يحجب حقيقة أن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات هي الأدنى في تاريخ إيران، حيث أعلنت الداخلية الإيرانية ان نسبة الاقتراع بلغت 42.57 في المائة، وهي المرة الأولى التي تقل فيها نسبة المشاركة عن 50 في المائة منذ “الثورة الإسلامية”.
فإيران التي لم تستفق بعد من صدمة اغتيال قاسم سليماني الرجل الأهم في نظامها بعد المرشد الأعلى، فاجأها انتشار فيروس الكورونا عشية الانتخابات التشريعية التي أرادها المرشد ان تكون دون منافسة وذات لون واحد متشدد، بعدما منعت مصلحة تشخيص النظام ترشح غالبية الإصلاحيين للانتخابات، منهم 120 نائباً كانوا منتخبين في البرلمان السابق.
وبرر المرشد علي خامنئي تدني نسبة الاقتراع بـ»الدعاية السلبية لأعداء الشعب الإيراني، عن تفشي فيروس «كورونا « في البلاد، قبيل الانتخابات كذريعة لمنع مشاركة المواطنين في الانتخابات، في محاولة منه لطمس حقيقة عدم نجاح الانتخابات شعبياً، والتي هندست في الأصل على النحو الذي يبرهن أن شعبية النظام لا تزال عالية، وبالتالي فإن المتظاهرين الذين خرجوا ضد النظام في المدن الإيرانية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، لم يكونوا سوى “عصابات” كما وصفها أقطاب النظام.
ومن الواضح أن التوجه نحو انتخابات معلبة، والإنتاج المتعمد لبرلمان متشدد بموالاته للمرشد و»الحرس الثوري»، بعد شطب السواد الأعظم من الإصلاحيين والمعتدلين، هو انزلاق خطير لم يكن ليحصل لولا موافقة خامنئي عليه. ويبدو أن المرشد يجد نفسه محاصرا بوقائع وبخيارات كل واحدة أصعب من الأخرى، وهو يرى أن بلاده تسير على حافة السكين بسب الحصار الأميركي وتأثيره على الحياة اليومية لملايين الإيرانيين والتي ترفع يوميا منسوب الرفض والمعارضة الشعبية للنظام الإيراني، وبعد دخول النظام الإيراني مرحلة استهلاك أرصدته الداخلية والخارجية، لذلك لا يجد خياراً آخر غير التصلب في مواقفه وشروطه، وهو يدرك أنه في أزمة داخلية هي الأسوأ منذ نشوئه. ولم تعد تنفع معه ابتسامات محمد جواد ظريف، ولا براغماتية حسن روحاني الذي سيفقد منصبه السنة المقبلة.
الوظيفة الأخرى للبرلمان الجديد، هي مواكبة تشدد المرشد و”الحرس” في المواجهة مع الولايات المتحدة، وإذا كانت واشنطن لا تزال تراهن سرّاً أو علناً على “الإصلاحيين”، فقد دفعت نتيجة الانتخابات الإصلاحيين إلى الأطراف، ولعل النظام أراد إبلاغ مَن يهمه الأمر أنهم كانوا “كذبة” وانتهت.
ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المُقبلة اتخاذ قرارات، وتطبيق سِياسات متطرفة، من بينها وقف كل أشكال الالتزام ببنود الاتفاق النووي، ورفع مُستوى تخصيب اليورانيوم، حيث بينت الأشهر الماضية أن النظام يفضل لعق جروحه لكسر “استراتيجية ترامب” التي استهدفت إرغام إيران على التفاوض بشروطه النووية وغير النووية. والواضح أيضاً أن طهران أدركت أن رضوخها لهذه الإستراتيجية سيعني في نهاية المطاف تغييراً تلقائياً للنظام وربما سقوطه. واقعياً.
لقد دفعت استحقاقات الانتخابات إلى خروج الخلافات من قلب الدواوين المقفلة في طهران إلى العلن الجماهيري، والبداية بنظام الشاه الذي كان يوصف بالنظام المقبور فأصبح يشار إليه بالسابق. فالرئيس حسن روحاني وليس غيره من قال: «لو ترك النظام السابق الناس أحرارا في اختيار نوع الحكومة والدستور ووافق على إجراء انتخابات نزيهة حرة ووطنية لم نكن بحاجة إلى الثورة». فلم يصل أي نقاش في السابق إلى درجة التهديد بوقوع ثورة جديدة، والعودة إلى البدايات.
كما أن هناك شواهد عديدة، برهنت أن نظام «ولاية الفقيه» فشل في تمثيل مختلف مكونات الأمة الإيرانية، وأنه غير قادر على استيعاب التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية، التي تتوزع عليها الأمة الإيرانية.
فعشية الانتخابات البرلمانية استعان نظام ولاية الفقيه بالتاريخ. فعاد إلى أكثر من 2500 سنة إلى الوراء، حين رفع على أحد الجسور في طهران يافطة، تحمل صورة أشهر الملوك الفرس، قوروش الكبير، مؤسس السلالة الأخمينية، وإلى جانبه خارطة للحدود التي وصلت إليها الإمبراطورية الفارسية في عهده، وكُتب عليها بالفارسية «إيران الغد هي امتداد لطموحات قوروش»، وأن إمبراطوريته «تمتد من السِند وسيحون في الشرق إلى غزة ولبنان في الغرب».
الاستعانة بقوروش في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الثورة الإيرانية، تكشف أن النظام يعاني من أزمة إعادة إنتاج نفسه ويبحث عن مسوغات جديدة تعطيه شرعية سياسية وأيديولوجيته بعد تقلص تأثيره الثقافي والاجتماعي على المجتمعات الإيرانية، وهو يريد أن يؤكد للشعب الإيراني صحة خياراته الخارجية، وأن التوسع الإقليمي الذي دشنه النظام الإيراني، ليس سوى إرث عزيز من حضور إيران الإمبراطوري عبر التاريخ.