بقلم - عبير بشير
بينما ينشغل العالم بأسره بفيروس كورونا، يكرس الرئيس بوتين بلاده، نموذجاً لديمقراطية الرجل القوي الذي يرث نفسه، وذلك بعد تبني تعديلات دستورية تتيح له تمديد بقائه على رأس الكرملين نظرياً حتى العام 2036، بعد تصفير فترات رئاسته، في حين أن القانون الروسي كان يمنع الرئيس من قضاء أكثر من ولايتين متتاليتين في السلطة.
ورغم ذلك، ينفي قيصر روسيا، أنه أصبح قيصرا بحكم الأمر الواقع. ففي إطار الذكرى العشرين لتوليه السلطة رداً على لقب القيصر الذي يسبغ عليه، قال بوتين، هذا لا علاقة له بالواقع. وأضاف، أنا أعمل كل يوم، أنا لا أحكم. القيصر هو الذي يجلس وينظر إليك من علوٍ ويقول، أنا آمر وهم ينفذون، بينما يجرب في الوقت نفسه قبعة وينظر إلى نفسه في المرآة. ورد المعارض الرئيسي للكرملين أليكسي نافالني، وكتب على موقع تويتر، «القيصر قال، إنه ليس قيصرا».
على كل حال، علاقة القيصر بوتين بجروح التاريخ، بليغة، لقد اتضح أن بوتين يحمل مشروعاً كبيراً للثأر من الغرب الذي دفع الاتحاد السوفياتي إلى المتاحف. بعد إقدام بوتين على ضم القرم وإصراره على معاقبة الثورات الملونة، ولعبه دورا حاسما في منطقة الشرق الأوسط عبر التدخل العسكري في سورية وبعدها في ليبيا.
وقد شجع القيصر بوتين على ذلك، انكفاء الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وتراجع الهيمنة الاقتصادية والسياسية للدول الغربية.
لقد قام السلوك السياسي للقيصر بوتين على مبدأين، والذي عبر عنه في غير مناسبة، المبدأ الأول أن أميركا ليست سيدة العالم لذلك رفض الكرملين تدخل ترامب في علاقتها مع السعودية بشأن معركة النفط الجارية بينهما. وأكد أن العلاقات بين روسيا والسعودية جيدة، وفيما يتعلق بأسواق النفط، وان موسكو لا ترغب في تدخل أي أحد. وذلك ردا على تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قال، إنه يعتزم التدخل في حرب أسعار النفط بين روسيا والسعودية في الوقت الحالي.
أما المبدأ الثاني فيتجلى في أن القوة دائما تنبع من استقرار الداخل، وهو ما نجح به بوتين في إخضاع الداخل الروسي، والجمهوريات المتحالفة معه إلى منظومة أمنية مستقرة.
وتركزت العقيدة البوتينية الجديدة على حاجة روسيا للعب دور محوري في كل قضايا العالم وبؤره المتوترة وخاصة في الشرق الأوسط، وفق منطلق واضح يقول، لن يتم حل أي قضية سياسية دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح موسكو ومشاركتها المباشرة في المشكلة والحل. خاصة وأن المنافسة الحالية لها طابع حضاري من خلال سعي بعض الدول إلى فرض قيمها على الآخرين.
لقد استخدم القيصر بوتين المنصة السورية للقول، إن روسيا لم تعد مصابة بغبار الركام السوفياتي. وإنها ليست قوة إقليمية تطوقها بيادق الأطلسي. وإنها دولة كبرى استردت أنيابها العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وصار القيصر بوتين حاضرا بقوة من دمشق إلى أنقرة، إلى طهران.
كانت سورية حلم بوتين وروسيا، كما إنها حلم السلطان أردوغان والجارة تركيا. هنا تبدو المشكلة. فالبلدان مأزومان في هويتيهما: تركيا آسيوية وأوروبية، ومع رجب أردوغان ازداد الضياع، ما بين إسلامية وعلمانية، وديمقراطية واستبدادية. وروسيا، كذلك، نصف ديمقراطية ونصف استبدادية، نصف علمانية ونصف دينية. والبلدان ضاقت عليهما خرائطهما ويحنان إلى إمبراطوريتيهما الغابرتين.
وحولت الاحتكاكات الدموية بين الجيشين التركي والسوري، العلاقة بين الرئيسين التركي والروسي الى امتحان صعب، للزعامة، والصلابة. لذلك لم يكن قرار وقف النار والتوصل إلى بروتوكول إضافي حول إدلب، في القمة الأخيرة التي جمعت بوتين مع أردوغان، مدفوعة بالإصرار على وقف أعمال القتال بقدر ما كانت مخططة لتفادي الانهيار التام للعلاقات الاستراتيجية الروسية – التركية، والتعرض لشماتة واشنطن.
وباتت مذكرة التفاهم الجديدة حول إدلب ملحقا إضافيا لاتفاق سوتشي، وشملت إنشاء ممر آمن عرضه 6 كم شمال الطريق الدولي «أم 4»، و6 كم جنوب الطريق ووقف كافة الأنشطة العسكرية على طول خط التماس في منطقة خفض التصعيد وتسيير دوريات تركية وروسية، على امتداد الطريق «أم 4». وسحب الأسلحة التركية الثقيلة من نقاط المراقبة.
لكن التقديرات في موسكو تقول، إن كل الترتيبات الحالية والهدنة القائمة في إدلب «مؤقتة»، لا يمكن أن تتحول إلى وضع مستقر، كما أن تراجع التوتر في المنطقة يتم استخدامه من جانب تركيا والفصائل المسلحة الموالية لها، لتعزيز قدراتهم وإطلاق مرحلة جديدة من المواجهة.
وحملت وزارة الدفاع الروسية مسؤولية عرقلة فتح طريق حلب – اللاذقية، كما جاء في بروتوكول إدلب الإضافي، لفصائل أو مجموعات مسلحة ليست خاضعة لسيطرة أنقرة. وأشارت تحديداً إلى تنظيمات: جبهة النصرة، وأجناد القوقاز والحزب الإسلامي التركستاني، وهما تنظيمان يجذبان مقاتلين من منطقة القوقاز ومن جمهوريات آسيا الوسطى وهو ما يدل على أن موسكو عملياً تهيئ الظروف للجولة العسكرية الثانية؛ لأنها ترى أن وقوع انتهاكات في المستقبل أمر لا بد منه، وأنقرة لن تكون قادرة على التعامل مع الأطراف الأكثر تشدداً؛ ما يعني أن الأمر متوقف على تحديد موعد الأزمة المقبلة فقط.
وبشكل عام، فالموقف التركي ليس نهائيا، وليس مستبعدا أن تستخدم تركيا أي ذريعة لإعادة تفجير الموقف في إدلب؛ بهدف مواصلة العمل على حشد تأييد أميركي وأوروبي لمواقفها، حيث يشكل اختبار تسيير الدوريات وفتح الطريق «إم 4» العنصر الأساسي للمناورات التي يمكن أن تقع لاحقاً، لجهة أن تركيا قادرة على التحرش باستخدام مجموعات مسلحة موالية لها، إذا رأت أن الأوضاع لا تميل لصالحها.
وقوبلت كلمات أردوغان حول رغبة بلاده في تحويل اتفاقه مع بوتين إلى اتفاق دائم، بنوع من الاستنكار لدى الساسة الروس، وقال السفير السابق أندريه باكلانوف، إن الفهم الثابت لدى موسكو يكمن في أن كل الاتفاقات الحالية مع أنقرة هي اتفاقات مؤقتة ولا يمكنها أن تؤسس لوضع نهائي، وأن الأراضي السورية كلها يجب عاجلاً أو آجلاً أن تعود إلى سيطرة الحكومة الشرعية. هذه العبارات انسجمت مع التوجه العام لوزارة الدفاع الروسية التي أعادت التذكير أخيراً بأن أي اتفاق على وقف النار لا يشمل الإرهابيين، وهؤلاء لا بد من التعامل معهم بشكل حاسم.
وهكذا ستبقى سورية في عهدة القيصر بوتين، الذي لن يتراجع عن استعادة كل الأراضي السورية، التي يعتبرها تحت وصاية الإمبراطورية الروسية.