تأملات في عالم مُتغيّر 2
أخر الأخبار

تأملات في عالم مُتغيّر (2)

تأملات في عالم مُتغيّر (2)

 لبنان اليوم -

تأملات في عالم مُتغيّر 2

بقلم : حسن خضر

توقفنا في مقالة سبقت عند انفصال السياسة عن القيم، وتجلياته في حالة ترامب، الشخص والظاهرة، بطريقة سافرة، وساخرة، وبذيئة تماماً. وخلصنا إلى فرضية أن في هذا ما يُميّز الشخص والظاهرة عن انفصال كان دائماً في صميم دوافع وسياسات التوسع والفتح على مدار قرون، مع ملاحظة أن أقنعة "القدر المتجلي"، و"عبء الرجل الأبيض"، وغيرها من التوليفات الأيديولوجية، كانت قشرة خارجية، وضرورة تجميلية، لتلك الدوافع والسياسات.
وخلصنا، أيضاً، إلى فرضية أن الانفصال في حالة ترامب الشخص والظاهرة لم يمكن ليحدث إلا بوصفه نتاجاً لمرحلة متقدمة من مراحل مجتمع الفرجة في إمبراطورية مأزومة. فحتى وقت قريب كان "امتهان" السياسة، لا في أميركا وحدها بل وفي كل مكان آخر، يعني قدراً من التجرّد المادي، والرفعة الأخلاقية، ناهيك عن المؤهلات "الوطنية"، و"الكفاءة" الذهنية، بما فيها المزاعم "الثقافية".
نعرف أن كل ما تقدّم كان، في حالات كثيرة، مجرّد أقنعة كاذبة، ومع ذلك كانت مطلوبة. والمُلاحظ في حالة ترامب، الشخص والظاهرة، أن كليهما لا يفتقر إلى صفات كهذه وحسب، بل ويوحي بعدم أهمية، أو ضرورة، هذا كله، أيضاً، فالأمور بخواتيمها، ولا قياس لشيء سوى بمسطرة الفوز والربح، حتى وإن نجما عن "البلف" والخداع، واللصوصية، والكذب. ومنشأ الخطورة، هنا، أن هذه نواقص تقليدية يُسهم الشخص والظاهرة في تطبيعها لا في أميركا وحسب، بل وفي كل مكان آخر.
ولا ينبغي التوقف عند هذا الحد، فثمة ما يستدعي التساؤل بشأن ما أسهم في صعود الشخص والظاهرة. سنضع هذا في إطار أوسع لاحقاً، ويكفي، الآن، الكلام عن ثلاثة روافع تتمثل في الخوف، والكراهية، والجنون القيامي.
يختزل الخوف قلق قطاعات واسعة من البيض الأميركيين من فقدان مكان ومكانة الأغلبية. فالميزان الديمغرافي يميل لصالح الأميركيين من أصول أفريقية، وذوي البشرة الداكنة من أميركا اللاتينية، إضافة إلى مهاجرين من آسيا والشرق الأوسط. ويشكّل هؤلاء قرابة 40 بالمائة من السكّان في الوقت الحالي، ويمكن لهؤلاء، وبالنظر إلى ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية عن مثيلاتها لدى البيض، الوصول إلى مكان ومكانة الأغلبية قبل نهاية هذا القرن.
ومن المؤكد أن وصول أوباما، إلى البيت الأبيض، كأوّل رئيس من أصول أفريقية، قرع في أسماع قطاعات واسعة من البيض توصف بالأقل تعليماً، والمتضررين من "العولمة"، والخائفين من الهجرة، أكثر من جرس للإنذار. وفي هذا السياق تتموضع دعوة ترامب لبناء جدار على الحدود مع المكسيك.
الكراهية نتاج طبيعي للخوف. وبهذا المعنى أسهم عالم العرب والمسلمين في صعود ترامب الشخص والظاهرة. فلا ينبغي التقليل من الآثار الكارثية بعيدة المدى للهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاها، من "قاعدة" و"دواعش"، وهجمات إرهابية في بلدان مختلفة.
فعالم العرب والمسلمين هو الذي أنجب كل هؤلاء، ولا يوجد لدى المواطن العادي، سواء في أميركا أو خارجها، ما يكفي من المعرفة، وحتى الصبر، لإدراك أن "الإسلام السياسي" كان جزءاً من لعبة الإمبراطورية، وأدواتها في زمن الحرب الباردة. كل ما في الأمر أن الإرهاب (معطوفاً على السبي، والانتحاريين، وجز الرؤوس، وتدمير الآثار، والمكتبات العامة) جدي وحقيقي ومخيف، وأنه وثيق الصلة، كما تقول نشرات الأخبار، بعالم العرب والمسلمين. وهنا، أيضاً، يتموضع قرار ترامب بعدم السماح لمواطني عدد من البلدان الإسلامية بدخول الولايات المتحدة.
ولنلاحظ أن اعتبارات السماح أو الحظر الترامبية انتقائية وحريصة على المنفعة المالية أكثر من حرصها على الأمن والقيم ومتساهلة في تشخيص المصدر والمُصدِّر الحقيقي للإرهاب (فكراً وجنوداً مشاة) ولكنها في كل الأحوال مُقنعة لناخبيه.
أما الرافعة الثالثة، وهي الأخطر في كل الأحوال، فتتمثل في المسيحيين الإنجيليين، الذين يُعدّون بالملايين، وينتظرون قدوم المُخلّص، ويهيئون له أسباب النزول، ومنها عودة اليهود إلى "أرض الميعاد"، فهذا شرط ضروري من شروط القيامة، ولدى الكثيرين من هؤلاء قناعة بأن "الخلاص" لن يكتمل إلا باعتناق اليهود للمسيحية.
لا يتسع المجال، هنا، للاستفاضة في الشرح، كل ما في الأمر أن هذا الجنون القيامي جدي وحقيقي وفاعل لدى قطاعات واسعة من البروتستانت الأميركيين، ويمثل الطبعة الداعشية للمسيحية السياسية في صيغتها الإنجيلية، والسلمية حتى الآن، على الأقل.
بيد أن الكلام عمّا تقدم من روافع لن يكتمل دون وضعها في سياق أعرض. فكلها أميركية، بقدر ما يُضفي عليها مجتمع الفرجة من خصوصيات وسمات وثيقة الصلة بالتجربة، والمجتمع الأميركيين.
وثمة ما يبرر التفكير في سياق أعرض على خلفية التحليل البديع لأنطونيو نغري، ومايكل هارت، قبل عشرين عاماً في كتاب عمدة بعنوان "الإمبراطورية"، وقد عادا، مؤخراً، إلى الفرضية نفسها بعد صعود ترامب. فالصعود لدى نيغري وهارت ليس ضد العولمة، وما يسم العالم من فوضى لا يهدد بتقويض نظام العولمة بل يمثل خصوصيته، وكذلك صعود الشعبويات، والقوميات البيضاء، والأزمات الاقتصادية، والمخاوف الاجتماعية.
فكل ما تقدّم من حراك واضطراب في بنية النظام، الذي يشبه كائناً خرافياً متعدد الأذرع والأطراف، يمثل محاولة لتحسين المكان والمكانة من جانب قوى فاعلة في النظام، وما تنطوي عليه هذه وتلك من امتيازات.
وخلاصتي: أن مجتمع الفرجة، في لحظة التنافس على مكان الأولوية، لم يجد مناصاً من نزع أقنعة أخلاقية وأيديولوجية لم تعد مجدية، وبهذا يتموضع انفصال السياسة عن القيم (حتى لدى الإنجيليين الذين يعتقدون أن ترامب، رغم عيوبه الفاضحة، هو أداة الرب) بوصفه الخيار الأكثر جاذبية في التنافس مع آخرين على ما يليق بأميركا المسيحية البيضاء، الخائفة، والمسكونة بالكراهية، من امتيازات في عالم تعولم.

 

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملات في عالم مُتغيّر 2 تأملات في عالم مُتغيّر 2



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

إطلالات محتشمة بلمسات الريش وألوان ربيعية تزين إطلالات النجمات

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 13:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يحمل إليك هذا اليوم كمّاً من النقاشات الجيدة

GMT 11:27 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

تركز انشغالك هذا اليوم على الشؤون المالية

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 13:08 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 13:29 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 21:58 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 07:30 2025 الأحد ,16 آذار/ مارس

مفاهيم خاطئة شائعة حول ديكور المنزل

GMT 12:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الجوزاء الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 11:34 2016 الجمعة ,02 كانون الأول / ديسمبر

كيك الليمون الشتوية

GMT 15:48 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

بلماضي يمتدح زروقي ويكشف سر تجاهل توبة

GMT 13:04 2022 الأربعاء ,20 تموز / يوليو

مقدار الماء الذي يحتاجه الجسم في الطقس الحار
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon