قلنا، قبل أسبوع: لا يمكن فهم «نيوم» و»دبي» دون التفكير في شخصيات خيالية من طراز «مصطفى موند، وتايم لورد». وهذا ما نحن بصدده، الآن. نيوم ودبي مدينتان، الأولى في طور الإنشاء، والثانية تباهي العالم بأكبر وأفخم وأهم أي شيء في، ومِنْ، كل شيء، وتعمل كخارطة طريق للأولى. وكلتاهما «مخزن للرغبات والغرائز اللاواعية والدوافع المكبوتة»، بلغة طيّب الذكر فرويد.
ولم يكن ليتأتى إنشاء صلة دلالية بين كيانيين ماديين تجتمع فيهما الخرسانة المُسلّحة بالدوافع المكبوتة من ناحية، وشخصيتين خياليتين تختزنان، أيضاً، رغبات وغرائز لاواعية، ودوافع مكبوتة (وإن يكن لأسباب مختلفة تماماً) من ناحية ثانية، لولا مركزية المدينتين في خطاب «السلام»، وأين؟ في الشرق الأوسط، بعد «دفن» أحقاد الماضي، والرهان على المستقبل، والتكنولوجيا، والتنمية والازدهار.
وفي الأثناء تكريس قيم التسامح، وتمتين أواصر الصداقة، وصلات القربى، بين منتجي ومستهلكي ومروّجي الديانات الإبراهيمية، أيضاً. وعلى البيعة «زيارة النشمي اللبيب لتل أبيب».
لا بأس. نورٌ على نور، لولا أن مصطفى موند وتايم لورد يفسدان الزيارة والمشهد معاً. ولا عجب أن يكون كلاهما صناعة بريطانية. والشاهد أن ثمة خصوصية تسم المفارقة (Irony) في اللغة والمخيال البريطانيين. وكنّا قد ألمحنا في معالجة الأسبوع الماضي إلى الأوّل بوصفه الفاعل الروائي في رواية ألدوس هوكسلي «عالم جديد شجاع»، والثاني بوصفه شخصية رئيسة في مسلسل مصوّر من إنتاج الـ»بي بي سي».
والواقع أن اسم الفاعل الرئيس، في رواية هوكسلي لم يغب عن أعين النقّاد منذ ظهور الرواية، ونذكر في هذا الصدد هارولد بلوم. وكما لاحظ المذكور، وآخرون، فالاسم مركّب من مقطعين، ينطوي الأوّل على دلالة المصطفى، أو المُختار، ويحيل إلى العربي، أو المسلم، والثاني قد يعني العالم بالفرنسية، أو الفم بالألمانية. وهذا كله لن يكون مفهوماً إلا في سياق رواية تصوّر عالماً ينقسم فيه بنو البشر إلى ثلاث فئات: الأولى السادة (الفا بلغة «عالم جديد شجاع»)، والثانية أشباه البشر، الذين يتم توليدهم في المعامل للقيام بأعمال محددة، وبقدرات عقلية تناسب نوع العمل، والثالثة بشر يعيشون كالحيوانات في المحميات، ويحظر عليهم دخول المدن، والاختلاط بغيرهم.
وما يعنينا في هذا السياق التفكير في «مصطفى» هذا، كرئيس لحكومة عالم يتجلى ككابوس. لماذا اختار هوكسلي العربي أو المسلم لوظيفة كهذه؟ الجواب لأن العربي والمسلم (التركي، على الأرجح) كان الحد الأقصى للآخر، والغريب (exotic) الكائن، أو الشيء، السلوك، الشكل، الرائحة، الطبيعة..الخ. وهذا كله ينتمي إلى ميراث بريطانيا الفيكتورية، قبل غروب شمس الإمبراطورية، وسقوط الروافع الأخلاقية والأيديولوجية لعبء الرجل الأبيض.
ولنلاحظ أن هوكسلي نفسه وُلد في أواخر العهد الفيكتوري. ولنفكر في أشياء من نوع: لم تكن التعددية الثقافية قد سادت في الأكاديميا، بعد، ولم يكن النفط قد اكتُشف بعد، ولا حركة التحرر القومي في المستعمرات قد اشتد عودها بعد. هذه الأشياء كلها خلقت ذائقة وحساسية جديدتين، بطبيعة الحال، بيد أن هذا كله لا يبرر تصوير «العربي» و»المسلم» بصورة مثالية، ومُضللة. ولنفكر، دائماً، أن الكثير من المحافظين والرجعيين، والشبيحة «المعادين للإمبريالية» يوظفون «الاستشراق»، وأفكار إدوارد سعيد بطريقة تفتقر إلى الصدق والنزاهة.
كان دور المسلمين العرب والأفارقة في تجارة العبيد إلى أميركا الشمالية معروفاً للمتعلمين في العصر الفيكتوري. ولماذا ننسى كلما ذكرنا رامبو، الشاعر الفرنسي، أن تجارة الرقيق والسلاح استهوته في عدن، التي كانت مركزا لشحن العبيد. ولماذا نغض الطرف عن حقيقة أن الرق استمر بصورة رسمية، في السعودية، حتى أوائل الستينيات وأُلغي بضغط من الرئيس كيندي. وهذا كله، ناهيك عن المكبوت الديني والثقافي والاجتماعي، الذي انفجر دفعة واحدة، وبطريقة أشد سميّة وعدوى، من الكورونا هذه الأيام، مع ظهور الدواعش.
في كل ما تقدّم ما يفسر، ويبرر (لأغراض سجالية، وعلى مستوى تحليل النص، على الأقل) كيف تصطفى الديستوبيا، في أكثر صورها غرابة، وآخرية، وإثارة للذعر، العربي، أو المسلم. أما «لغم» هوكسلي (على طريقة محمود درويش الذي يضع «ألغاماً» في قصائده) فيتمثل في علاقة الدال بالمدلول في المصطفى الفم، والمصطفى العالم، على خلفية الكابوس. وفي هذا التفصيل، بالتحديد، تطل المفارقة، اللاذعة والبريطانية تماماً، وتُعلن حضورها.
ومع هذا في الذهن، نطل على «نيوم»، التي يقول أصحابها (استناداً إلى ما جاء في كتاب «النفط والدم»)، إن اسمها يتكون من مقطعين «نيو» التي تعني «جديد» بالإنكليزية، و»م» الحرف الأول في كلمة مدينة بالعربية، أو الشرق الأوسط بالإنكليزية.
والمهم، (دون التفات إلى تثاقل حس الدعابة، في التسمية، وسطوع المفارقة كشمس حارقة)، أن المدينة الجديدة، أو الشرق الأوسط الجديد (وهنا أنقل عن «النفط والدم» بطريقة شبه حرفية) ستخضع لنظام مراقبة على مدار الساعة، يعني كاميرا ترصد حركة كل شخص فيها.
ولن يُسمح لمّن شاء دخولها، ناهيك عن الإقامة فيها، بل ستكون متاحة لنوع معيّن من السعوديين. أما الحياة فيها فتعني أسلوب حياة من المهد إلى اللحد، بما في ذلك تجارب جينية لزيادة القوة والذكاء وإطالة العمر، وكل حاجات المدينة، واحتياجات سكانها ستعمل الريبوتات على توفيرها، إضافة إلى قمر اصطناعي يبزغ كل ليلة ليضيء المدينة.
ألا يُذكّر هذا كله بشيء ما؟ ألا يطلق تداعيات، ويُولد دلالات لا حصر لها، ألا يفتح أفقاً مُدهشاً للتفكير في شرق «السلام الإبراهيمي»، مرئياً من شرفات مدينتيه، ومكتوباً بلغة «عالم جديد شجاع» بطريقة جديدة تماماً؟ فاصل ونواصل.