بقلم : حسن خضر
وإذا أكملنا من حيث توقفنا فلنقل: إن حصر محاولة التأثير في الانتخابات الأميركية، والاستثمار بعيد المدى في ترامب، في الروس لا يكفي لإغلاق قوس ما انفتح من أسئلة. وماذا عن الإسرائيليين، وحتى بعض العرب؟ وقد ورد ذكر هؤلاء في مناسبات مختلفة، ولم يحتلوا المتن، كما حدث مع الروس.
وما تجدر ملاحظته، في هذا الصدد، أن دخول ترامب الانتخابات التمهيدية للجمهوريين بدا للوهلة الأولى، وللغالبية العظمى من مراقبي المشهد السياسي في الولايات المتحدة، مزحة ثقيلة، و"نهفة" تُضاف إلى قائمة شطحات كثيرة وسمت حضوره في الحقل العام كشخصية تلفزيونية، وتاجر عقارات، وعلامة تجارية، وصاحب "رأي" في السياسة يُعبّر عنه بإعلانات سخيفة وعنصرية، مدفوعة الثمن، من نوع التشكيك في شهادة ميلاد أوباما، مثلاً.
وحتى ستيف بانون، الهامشي، والمقيم في أقصى اليمين، الذي سيقود حملته الانتخابية في وقت لاحق، ويصبح كبير معاونيه، سخر من التحاق ترامب بانتخابات الجمهوريين التمهيدية، واعتبر الوقوف إلى جانبه مضيعة للوقت. وترامب نفسه، لم يأخذ التنافس على تمثيل الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية على محمل الجد، إلا من زاوية أن اسمه سيتردد كثيراً في وسائل الإعلام، وأن هذا مفيد لرفع قيمته في سوق المال والأعمال، وتكريس وجوده في قوائم "المشاهير".
ومع ذلك، حدث شيء ما في الفترة الفاصلة ما بين انتخابات الجمهوريين التمهيدية، وبين التحوّل إلى مرشح وحيد، ومنافس لهيلاري كلينتون. لا نعرف ما الذي حدث، بالضبط، ومع ذلك، لفت ترامب، بالتأكيد، أنظار المعنيين بنتائج الانتخابات، وبرهن على جدارته عندما تصدّر مَنْ رأى فيه البعض "مهرجاً بلا أمل في الشفاء" قائمة الجمهوريين، وأصبح منافساً وحيداً وقوياً، بلغة وتكتيكات غير مألوفة، لهيلاري كلينتون، والديمقراطيين.
وما تجلى واضحاً في الفترة الفاصلة بين قائمة الجمهوريين والمناظرة مع كلينتون، تمثل في حصول ترامب على شعبية لدى قطاع واسع من الناخبين. ولا يتسع المجال، هنا، للخوض في الخصائص السوسيولوجية والثقافية لناخبيه، المهم أن ابتذاله اللغوي خلافاً لآداب في الكلام والحساسية والسلوك تُختزل في تعبير (politically correct) السائد حتى ذلك الوقت في الحقل السياسي جذب كثيرين، وباللغة المُبتذلة نفسها عبّر عن ميوله المعادية للمسلمين، والمهاجرين. وعلاوة على هذا كله، "اكتشف" مركزية إسرائيل في أوساط الإنجيليين، وإمكانية كسب ناخبين لم يكسبهم الجمهوريون من قبل.
كيف تضافر هذا كله في استيهامات لا سامية، وعلاقة النسب مع آل كوشنر، لا نعرف. المهم أنه نجح في الرهان، وأن ما كان في زمن الحملة الانتخابية وعوداً قطعها تاجر عقارات على نفسه، سيصبح، بعد الفوز، برنامجاً رئاسياً في البيت الأبيض، وأن الوعود التي كانت دينا انتخابياً (القدس، الجولان، الضفة الغربية، الجدار مع المكسيك، مجابهة الصين، والانسحاب من اتفاقية المناخ، الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، والتوقف عن ترديد الكلام "الفاضي" عن الديمقراطية، واحتضان المستثمرين العرب والإسرائيليين والروس) أصبحت واجبة التسديد.
بيد أن هذا كله لن يكون مفهوماً دون إشارة إلى التاريخ العائلي والسياسي لبنيامين نتنياهو، وهو أميركي أكثر منه إسرائيلي، في الواقع، بشهادة اسحق رابين (هو ليس منّا)، وإيهود باراك قائد وحدة الكوماندوس الخاصة التي خدم فيها نتنياهو وشقيقه (هو ليس من هنا).
نكتفي في موضوع "أميركي" بحقيقة أنه تعلّم وعاش أغلب سني حياته حتى أواسط التسعينيات في أميركا، وأن نجاحه في الإطاحة بأمراء الليكود، وتزعّم الحزب، ونجاحه في الفوز مرّات متتالية نجم عن اتباع تكتيكات انتخابية أميركية، وعن علاقة استراتيجية باليمين الأميركي، مكّنته من تمويل مشروع طموح لتغيير الثقافة السائدة في إسرائيل، والاستفادة من التأثيرات الكارثية للانتفاضة الثانية.
وهذا، أيضاً، لن يكون مفهوماً خارج السلوك السياسي، والقناعات الأيديولوجية العائلية. وثمة ما يبرر في هذا الصدد الإشارة إلى كتاب الصحافي الإسرائيلي بن كاسبيت "سنوات نتنياهو" الصادر في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات كمرجع لافت للنظر يُضاف إلى قائمة الأدبيات ذات الصلة.
فدلالة الأميركي تصدق، أيضاً، على نتنياهو الجد، والأب، وقد أنفق كلاهما سنوات طويلة في أميركا. والأهم، كما يقول كاسبيت إن الرهان على جماعات الضغط، ومحاولة التأثير على صنّاع السياسة، قاسم مشترك بين الجد، والابن، والحفيد، الذي تفوّق على الاثنين عندما خطب في الكونغرس متحدياً أوباما في سابقة مُوحية.
وإلى ما تقدّم يُضاف تفسير الحظوظ السيئة للجد والأب في تاريخ الحركة الصهيونية. فكلاهما كان يمينياً يعتقد أنه لم ينل ما يستحق من مكان ومكانة. والحفيد من جانبه يعزو كل محاولة للتدقيق في سلوكه السياسي والشخصي إلى مؤامرة من جهة اليسار.
القاسم المشترك بين هؤلاء، بالمعنى الأيديولوجي، وكما جاء في الشعار التقليدي لجناح جابوتنسكي "للأردن ضفتان الأولى لنا والثانية لنا". وبهذا المعنى كان نتنياهو الحفيد معادياً لاتفاقيات أوسلو، أيضاً، وصعد في أواسط التسعينيات في المشهد السياسي الإسرائيلي (بدعم من شيمون بيريس، وموشي آرينز) لعرقلة أوسلو، واحتمال قيام دولة فلسطينية، وبين الإسرائيليين من يضع دم رابين على عاتقه.
كل هذا أصبح جزءاً من "التاريخ". وقد يرى البعض أن في "التركيز" على أشخاص من نوع نتنياهو وترامب ما يُمثل تجاوزاً لقوانين موضوعية تحكم آليات صنع القرار حتى في الدول الشمولية. بيد أن هذا صحيح إلى حد ما، فقط، فثمة الكثير مما يصعب فهمه دون استراق النظر إلى الخصوصيات والتواريخ الشخصية، وعلاقات القربى، وما يتصل بهذه وتلك من مصالح وشبكات. والمهم أن "رهان" نتنياهو على ترامب يبدو ناجحاً حتى الآن، أما مدى فائدته لإسرائيل وأميركا فموضوع آخر.