لا مهرب من «الحدث الأميركي» فهو الأكثر إلحاحاً الآن. ولنبدأ بتفصيل لا يحتل المتن في طوفان التعليقات التي أعقبت محاولة ترامب الانقلابية. ومبرر الأمر أن تفصيلاً كهذا يبدو مدخلاً، لا غنى عنه، لتعميق فهمنا للظاهرة الترامبية.
والقصد أن السمات الرئيسة للمحاولة الانقلابية هي الغباء، والرعونة، والاستعراض، وعدم حساب العواقب.
وهذه كلها من سمات ترامب نفسه بالمعنى الشخصي والسياسي معاً. وإذا جاز لنا تركيب قطع الليغو التي تكوّنت منها المحاولة الانقلابية نلاحظ أن القطع الرئيسة تتمثل في احتمالات (من نوع رفض مايك بنس التصديق على أصوات المجمّع الانتخابي)، وفي الرهان على نجاح الحشد الغاضب (بعد رشوة بعض المسؤولين عن الأمن في شرطة الكابيتول هِل، أو تأخير وصول النجدة) في اقتحام المبنى، وتعطيل جلسة التصويت، وتعطيل العملية الدستورية لعدة أيام، وربما أسابيع. (وبعدها يفعل الله ما لا تعلمون).
وفي حسابات كهذه يبدو حتى صغار الانقلابيين، في العالم الثالث، أكثر كفاءة وبراعة من المعتوه (كما وصفته نانسي بيلوسي). وهذا ليس موضوعنا اليوم. كل ما في الأمر أن المؤامرة تشبه صاحبها. وأريدُ من هذا الوصول إلى ما يعنينا، في هذا الجزء من العالم. فالطريقة التي صنع بها دونالد ترامب «سلام إبراهيم» (وهو محاولة انقلابية، أيضاً) لا تختلف كثيراً، من حيث الكفاءة، والمقوّمات العقلية، والحسابات السياسية، عن طريقته في إدارة المحاولة الانقلابية في واشنطن. ولكن مع فارق جوهري ورئيس:
لم يكن لديه في واشنطن شركاء وحلفاء من طراز ما لديه في الشرق الأوسط. ولم يكن في العالم العربي نفسه ما يكفي من القيم التي لا تسمح بأكل لحم الأخ حيّاً، خلافاً لواقع الحال في الولايات المتحدة حيث تتمتع القيم والمؤسسات بطاقة إيجابية أسهمت في إحباط المحاولة الانقلابية.
ولكي لا تضيع البوصلة، وإذا كان ترامب هو القاسم المشترك في المحاولتين الانقلابيتين الأميركية والشرق أوسطية، فإنه يستحق، بهذا المعنى، المزيد من التفكير والتدبير بوصفه شخصاً وظاهرة في آن. فهو في التحليل الأخير ظاهرة أميركية، أي تستمد مقوّماتها من عناصر وثيقة الصلة بالبنية الطبقية والعرقية والرأسمالية للمجتمع الأميركي في طور انحطاطه.
وبهذا تُفسَّر قاعدته الشعبية، وقدرته على اجتياح المشهد السياسي الأميركي، ومحاولة صياغته من جديد على طريق إنشاء نظام شمولي يطيح بالمؤسسات الديمقراطية.
وما يعنينا، في هذا الشأن، أن في كل ما فعل، على هذه الطريق، ما يترجم صفة من صفاته، بالمعنى الشخصي للكلمة. فهو لص، وكاذب، ومهرّج، ومُخادع، وجاهل، وعنصري، وأحمق.
وهذه الصفات ليست من اختراعي بل تجدونها في كتب وتحليلات لا تحصى نُشرت في أميركا (ولا يتسع المجال، هنا، لذكرها). والمهم أنها لا تبدو استثنائية في حالة الكثير من «القادة» و»الزعماء» في أماكن مختلفة من العالم. ولكن أحداً من هؤلاء لا يعترف بها، أو يسعى إلى «تطبيع» وجودها في الحياة العامّة. لذا، لن تجد إلا ادعاء الكفاءة، والتجرّد، والتغني بالمُثل العليا. (بل ولا يندر أن يصبح البعض، بما لديهم من أدوات الدعاية والقمع، «عباقرة مُلهمين»، و»قادة تاريخيين»).
ولكن ترامب شذّ عن القاعدة. ولم يجد غضاضة في تحويل صفاته الشخصية إلى شيء معقول ومقبول. أليس المهم هو الربح؟ أليست السياسة لعبة بلا أخلاق؟ وما قيمة الخبرة، والمعرفة، والقيم، إذا تمكنت من توظيف تكنوقراط ومستشارين؟. وهذا، في الواقع، مصدر ما شكّل، ويشكّل، من خطورة على بلاده وعلى العالم: تطبيع اللصوصية، والجهل، وانتهاك القيم والقوانين، بل وحتى تحويل هذا كله إلى مثل أعلى من طراز جديد.
ولا يتضح معنى الخطورة، هنا، ما لم نلاحظ مصدراً ثانياً للمثل الأعلى الجديد، فترامب الشخص والظاهرة، إضافة إلى مقوّماته الأميركية الخالصة، من الثمار السلبية للعولمة، التي يصطرع فيها عاملان متناقضان: الحد من النزعات الحصرية والقومية من ناحية، وبلورة نخب مالية معولمة وشمولية جديدة تسعى لتكريس زمن ما بعد الديمقراطية والقيم، من ناحية ثانية.
وربما كان، بهذا المعنى، أفضل «نعمة» هبطت على «شركائه» العرب في السر والعلن. فلا أحد من هؤلاء إلا ويرى في قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، مصدر تهديد لأنظمة شمولية مُطلقة لا تعرف ضرورة العقد الاجتماعي، ولا تعترف بحرية الرأي، والمعارضة، والأحزاب السياسية، والفصل بين السلطات. وقد هبطت عليهم «النعمة» في لحظة صعودهم على موجة العولمة، وانهيار الحواضر التي شكّلت رادعاً بالمعنى الأيديولوجي، والسياسي، بل وحتى بمنطق القوّة.
وعلاوة على هذا كله، ثمة من الشواهد ما يكفي للتفكير في إسهام هؤلاء المباشر في صناعة وتمكين ترامب الشخص والظاهرة. فقد وردت إشارات في تحقيق موللر حول أشخاص وشبكات، وعلاقات خليجية، كانت جزءاً من دائرة المذكور منذ صعوده كمرّشح للجمهوريين. وفي هذا الصدد، يمثل كتاب سيث أبرامسون «دليل المؤامرة: كيف تهدد مؤامرة ترامب الدولية الديمقراطية الأميركية» (أيلول 2019)، أحد المصادر الغنية بالمعلومات والتفاصيل غير المتداولة في وسائل الإعلام. وقد يفضح التحقيق مع ترامب، إذا انتهى به الأمر في السجن، وشربت إدارة بايدن «حليب السباع»، تفاصيل كثيرة مجهولة.
والمهم، أن الشخص الذي أراد أن يجعل أميركا عظيمة، هو نفسه الذي فتحها على احتمال الحرب الأهلية، والانقلابات، والنظام الشمولي، تماماً كما فعل أصحاب «المشروع الإسلامي العظيم»، الذين ألحقوا، في كل مكان ظهروا فيه، كارثة بالإسلام والمسلمين في بلادهم والعالم. فالسياسة أخطر من أن تُترك لرجال الأعمال (حتى العباقرة منهم، وما أدراك إذا كانوا نصّابين)، كما أن الحرب أخطر من أن تُترك للجنرالات. وهذا أقل ما يُقال عن الحدث الأميركي اليوم.