بقلم : حسن خضر
قلنا إن القافية حكمت في موضوع "أبراهام"، الذي هو، ومن محاسن الصدف، "إبراهيم". والطريف أن سفير الإمارات، في واشنطن، كتب في الصحافة الإسرائيلية داعياً الإسرائيليين إلى زيارة معالم سياحية في بلاده عددّ منها أكبر برج، وأكبر مول (في العالم، طبعاً) والمركز الإبراهيمي "بعد الانتهاء من بنائه". ولعل في هذا ما يُعيد تذكيرنا بمشروع مجمّع الديانات في سانت كاترين، في سيناء، الذي أطلقه السادات بعد زيارة القدس، وأُشيع أنه كان يقضي فيه العشر الأواخر من رمضان.
لم تشفع للسادات، كما هو معلوم، لدى قاتليه وهم حسب ادعائهم لا يقلّون ورعاً عنه، العشر الأواخر، ولا الدلالات الروحيّة العميقة لمجمّع الديانات الثلاث. ولم يعش ليرى صعود الدواعش والخلافة في بلاد العرب، والإنجيليين في بلاد "العزيز هنري"، والقومية الدينية في دولة "أولاد عمّنا"، أما سيناء فأصبحت ميداناً مفتوحاً للقتل والقتال بين الجيش المصري، وعصابات إجرامية تقتل باسم الدين.
الخلاصة: لا ينبغي اللعب بالدين، أو معه، فهذه خلطة لمكوّنات سريعة الاشتعال. وإذا فكّرنا في فرضيات من نوع أن التاريخ يحضر مرّة كمأساة، وفي الثانية كملهاة، فربما لن نجد أبلغ دلالة على الملهاة (يعني المسخرة) من الطريقة التي يلعب بها تجّار عقارات، ومختصون في فض النزاعات العقارية، وجاهلون وحمقى في أجهزة الأمن والأكاديميا، بورقة الدين، وراء قناع أبراهام (هم)، هذا، الذي هو إبراهيم (نا)، أيضاً. وهم يفعلون هذا مع شركاء في الخليج عندهم أكبر برج ومول، وقريباً أضخم وأفخم (أكيد) المراكز الإبراهيمية في العالم.
هذه خلطة عجيبة وغريبة، وخطيرة جداً، أشد فتكاً وخطورة من تقوى السادات، ومُجمّعه، والعشر الأواخر. وهي، أشد فتكاً، في كل الأحوال، بحكم ما تضافر فيها من العجيب والغريب وراء قناع التدليس والكذب، وبقدر ما يبدو قناع ما تسعى لحجبه رقيقاً ومُفتعلاً.
فلا علاقة لإشهار "السلام" الإماراتي ـ الإسرائيلي بفلسطين والفلسطينيين إلا بقدر ما يمكن المساومة على، وبيع هؤلاء، بسعر معقول يضعه الطرف الأوّل على الطاولة تعبيراً عن صدق النيّة، وجدية العقد، على طريق الاحتماء بإسرائيل، القوّة الإقليمية الصاعدة، والاستعانة بها، والاتكال عليها، للحصول على مرتبة "وكيل المعلّم"، في ترتيب أوضاع "الحارة"، وهندسة العالم العربي والاستفراد بزعامته. أوهام، وميغالومانيا، تُذكّر والشيء بالشيء يُذكر، بأصحاب قاعدة "العيديد"، الذين فتحوا الذراعين للأميركيين، وبنوا لهم قاعدة على حسابهم، للاحتماء بهم، والاعتماد عليهم في أوهام وميغالومانيا دور اللاعب الرئيس في الشرق الأوسط.
بصراحة، وينبغي أن نقولها بالعامية (في شي غلط في أوهام وميغالومانيا أكبر شي من كل شي، وجامع مؤسس الوهابية في الدوحة أكبر شي كمان وكمان). ولكن، وبصرف النظر عمّا في أمر كهذا من جراح نرجسية كثيرة، فلنقل إن "هذا الشيء الغلط" لم يكن أقل خطراً على الحواضر من أنظمتها الاستبدادية، والكولونيالية الغربية، وإسرائيل، فقد هجم عليها بالوهابية، وفساد وثقافة البترودولار، وأسهم في تجفيف ميراثها الحضاري والإنساني، ويُغلق الدائرة، الآن، بالتحالف مع كل هؤلاء وراء قناع المركز الإبراهيمي، وحوار الأديان، ووزارات السعادة والتسامح، وأحدث منتجات وادي السيلكون. وهذا كله، كما يقول "خطاب السلام" يصنعه: "الشباب في إسرائيل والخليج الذين وضعوا حساسيات وضغائن الماضي وراء ظهورهم"، كما كتب الشخص الذي أسلفنا الكلام عنه في الصحافة الإسرائيلية.
بصراحة: "هذا الشيء الغلط" هو الذي قاد الثورة المضادة في وجه الربيع العربي: استثمر المليارات مرّة دفاعاً عن "الديموقراطية"، التي تتجلى الآن في أذهان الكثيرين بطريقة سلبية، وسيئة تماماً، بعدما شوّه القطريون صورتها لتبدو رديفاً لمشروع الإخوان المسلمين. ومرّة دفاعاً عن "الدكتاتورية"، التي تتجلى الآن، مباشرة ومداورة، بطريقة تكاد تكون إيجابية، تماماً، في فضائيات ومنابر السعودية والإمارات بوصفها ضمانة مُجرّبة، مأمونة، ومضمونة لحماية العرب من الإخوان والدواعش، ومخاطر "الربيع العربي".
ومِنْ حُسن الحظ أن الدنيا لا تكف عن توليد المفارقات. فقبل أيام رفع نتنياهو مقطع فيديو لمقابلة مصوّرة معه، وحذفه بعد وقت قصير. يرد المذكور في الفيديو (الذي لم أسمع به، بل رأيته) على سؤال حول دلالة العلاقة بين إسرائيل والإمارات فيقول إنها "بين دولتين ديموقراطيتين" وكبيرتين في المنطقة. ومن المُرجّح أن يكون أحد مساعديه قد لفت انتباهه إلى ضرورة الكذب لا على طريقة حلفائه الجدد، بل بطريقة مُقنعة للإسرائيليين وبقية العالم. وبناء عليه حذف الفيديو، لكن "أولاد وبنات الحلال" انتبهوا للأمر، ونسخوا الفيديو قبيل حذفه.
بمعنى آخر، فإن هذا "الشيء الغلط" المسكون بجراح نرجسية وميغالومانيا (الأكبر من أي شيء آخر في كل شيء آخر، وكل مكان آخر) قد يجد من يثني عليه، ويشهد له بالديموقراطية، كما فعل نتنياهو، وكما فعل قبله ترامب الذي وصف شركاء نتنياهو الجدد بالقوّة الرئيسة في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، ثمة دلالة أعمق لكذب ونفاق نتنياهو وترامب. وقد تنبّهت إلى هذا الأمر كارولينا لاندسمان، في هآرتس، فالحلف الجديد يضع إسرائيل والإمارات في سلة واحدة في "ثورة ما بعد الديمقراطية"، التي تنتصر فيها الشعبويات، والقوميات البيضاء، والدكتاتوريات، على الديمقراطية الليبرالية، وما فيها من قيم العدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان.
هذه ملاحظة جديرة بالاهتمام، فعلاً، وقد سبق وتناولتُ هذه الدلالة بالتحديد، وما ينتظر العالم العربي، كخارطة طريق، ومقامرة نتنياهو الانتحارية، في سلسلة مقالات قبل عدة أشهر عن "ترامب وإسرائيل والصفقة والفلسطينيين". على أي حال، لا يُمل، ولنا عودة.