ننتقل من "شجاعة المحو" إلى "تطبيع الاستثناء". كلا الأمرين وثيق الصلة بالآخر، وكلاهما ناجم، في الذهن، عن قراءة نقدية لكتاب علي الشهابي المعنون "المملكة السعودية بين المطرقة الجهادية والسندان الإيراني"، الذي يحتمل أكثر من صفة:
فهو المرافعة الأيديولوجية الأهم عن نموذج الدولة السعودية (لا برلمان، لا أحزاب، لا دستور، لا مواطنة، لا حرية تعبير) للتدليل على أولويته على نموذج الجمهوريات الراديكالية التي أنشأها العسكريون والثوّار في الجزائر، والعراق، وليبيا (هذا ينسحب على البقية، أيضاً). وهو، أيضاً، خطاب دولة 2030 السعودية، التي رُسمت ملامحها "رؤية"، في خطاب "العهد الجديد"، سترفعها درجة أعلى في سلّم التطوّر والازدهار بعد عقد من الآن.
ولا يمكن، في الواقع، للثورة المضادة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، أن تحلم بمرافعة أيديولوجية أفضل من هذه.
ويصعب، في الوقت نفسه، فصل معنى ومبنى المرافعة (لغةً، وجغرافيا، ومفاهيم) عن حقيقة قيادة، ودعم، النسق السعودي ـ الخليجي لقوى الثورة المضادة في العالم العربي، وانتقاله بها، ومعها، من هامش الفعل إلى مركزه. وقد تجلى هذا، ضمن أمور أخرى، في رهانات كانت حتى وقت قريب خيالية، تماماً، من نوع الهندسة السياسية لحواضر كالقاهرة، وبغداد، ودمشق.
وبالقدر نفسه، يصعب، أيضاً، فصل معنى ومبنى المرافعة (لغةً، وجغرافيا، ومفاهيم) عن نخبة كوزموبوليتية، مخلّعة الجذور، مُعلمنة، جاءت من منابت مختلفة، تنتمي إلى الشرائح العليا لطبقة المدراء والفنيين والوسطاء، الذين أنجبتهم المدارس الأجنبية، واكتسبوا مكاناً ومكانة، وخبرة يصعب الاستغناء عنها، في نظام، وشبكات، الإعلام، والدبلوماسية، والمصارف، والتجارة الدولية، ونظام الرأسمالية العالمية، وسوقها، في زمن العولمة.
وأغلب هؤلاء ليسوا من سلالة الحكّام وحلفائهم الدينيين، بلا أصول نجدية، وعزوة قبلية، أو مصاهرات، بل هم أبناء وأحفاد أجانب في الغالب، ويمكن زعزعة كل وجودهم، وامتيازاتهم، بجرّة قلم أو مكالمة هاتفية واحدة. لذا يحتاج هؤلاء لتأمين أنفسهم (بعد رضا الحكّام) إلى صيغة من نوع ما لعقد اجتماعي جديد. هذا هو المسكوت عنه في مرافعة الشهابي، التي تتجلى، أيضاً، كخارطة طريق لتجنيب النظام نفسه مخاطر الانهيار.
وقد ألمحنا في معالجة سبقت إلى "مصادفة" نشر الكتاب في لحظة تاريخية لا تشكو وفرة الدلالات. فطبعته الأولى ظهرت في أيلول من ذلك العام، أي بعد ثمانية أشهر من انتقال الحكم من ملك إلى آخر في كانون الثاني 2015.
ويبدو أن ما طرأ من تطوّرات على سدّة الحكم، في الرياض، شجّع الناشر والكاتب على إصدار طبعة ثانية بعد ثلاثة أشهر. وبقدر ما أعلم، لم يُترجم الكتاب إلى العربية حتى الآن.
ومن المنطقي، طبعاً، التفكير في أمور من نوع أن الأفكار الرئيسة للشهابي لم تتبلور خلال ذلك الوقت القصير، في الفترة الفاصلة بين نشر الكتاب وانتقال الحكم من ملك إلى آخر. فمن المؤكد أن ما جاء في الكتاب من أفكار ومرافعات شغل بال كثيرين في أوساط "النخبة" على مدار سنوات سبقت، خاصة وأن فيه الكثير من مفردات إصلاحية تحضر في خطاب "العهد الجديد" عن نفسه، ولكي يبرهن على جدته: تمكين الشباب (يعتقد الشهابي أن الكبت الجنسي والضجر يمكن أن يشعلا ثورة تطيح بالنظام) وتخفيف القيود المفروضة على النساء، وتخفيف تسلّط الشرطة الدينية، والحد من تغوّل أفراد العائلة الحاكمة، وتنويع مصادر الدخل استعداداً لعصر ما بعد النفط.
وإذا كنت قد لفتُ الأنظار إلى فرضية تفتقر إلى النزاهة من نوع عقد مقارنة بين السعودية، من ناحية، والجزائر وليبيا والعراق، من ناحية ثانية، لأن النفط مصدر دخلها الرئيس، ووضعتُ هذا كله تحت بند "شجاعة المحو"، فإن ما يندرج تحت بند "تطبيع الاستثناء" يتمثل في تجاهل الشهابي لكل ما يدخل في باب: (لا برلمان، لا أحزاب، لا دستور، لا مواطنة، لا حرية تعبير)، وهي صفات تمثل القاسم المشترك مع بقية أعضاء مجلس التعاون الخليجي، مع استثناءات طفيفة في الكويت.
وبهذا المعنى، يأخذنا غض الطرف عن المضامين السياسية لـ"الإصلاح"، وحصره في تعبيرات تقنية عن التقنية والترفيه والنمو، إلى تطبيع الاستثناء السعودي، الذي لا يشبه نظاماً آخر في الكون، من ناحية، وتكريس أولويته على أنظمة "الانقلابيين والثوريين والراديكاليين والجمهوريين" العرب، من ناحية ثانية.
والمُدهش في الأمر، وكما تنطوي "شجاعة المحو" على شطب الفارق بين الاستثناء والقاعدة، بتجريد الاثنين من التاريخ والذاكرة، فإن السعودي الكوزموبوليتاني، شبه المُعلمن، يعرف أن أحداً لن يأخذه على محمل الجد، ولن يأخذ هو نفسه على محمل الجد (على الأرجح) إذا حاول تطبيع الاستثناء بمبررات تقليدية، ومركزية في الخطاب السائد، كتعبير النظام عن أشياء غامضة من نوع "هوية الأمة"، أو "صحيح الدين".
وهذا، على أي حال، ما فعلته المؤسسة الدينية على مدار عقود طويلة، ولكنه أصبح إشكالياً تماماً، بل ومصدر حرج وقلق دائمين، بعد الحادي عشر من سبتمبر، وانشقاق فريق يُعتد به من المؤسسة الدينية، وانقلابه على حلفائه السابقين، وموجة إرهاب السلفية الجهادية التي ضربت العالم.
لذا، لن يتمكن من تطبيع الاستثناء دون طرد السياسة من مشروع "الإصلاح"، وتفادي الاعتراف بحقيقة أن خصوصية النظام، (وهي التي أوصلته إلى طريق مسدودة، وكذلك مشروعه الإصلاحي الجديد، الذي يحاول تطبيع وجوده، به، كاستثناء)، هما، في الواقع، نتاج هندسة خارجية، منذ اكتشاف النفط، على يد القوى الغربية الكبرى، ودمج ذلك المكان في سوق الرأسمالية العالمية، وجعله مُنتجاً من منتجاتها في الماضي والحاضر. فاصل ونواصل.