بقلم - حسن خضر
وصل بنا الكلام، قبل أسبوع، إلى مقامرة اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل. وسنفسّر، اليوم، سماتها الرئيسة، والمُراد منها، ودلالة ـ كما أسلفنا ـ ما تنطوي عليه من مخاطر. ولنتذكَّر أننا تناولنا هذا الأمر في سياق الكلام عن رأس المال الرمزي والأخلاقي لدولة لليهود. كما وأشرنا، في السياق نفسه، إلى محاكاة تجربة سابقة.
المقصود بالمقامرة أن اليمين القومي ـ الديني، بزعامة نتنياهو، وبناء على تشخيص يبدو منطقياً وواقعياً إلى حد بعيد، يعتقد أن الشعبويات والقوميات في أوروبا الغربية والولايات المتحدة في صعود، كما في كل مكان آخر: تركيا أردوغان، وروسيا بوتين، وصين بينغ، وإيران الولي الفقيه، وهند مودي، إضافة إلى دكتاتوريات العرب العسكرية والمُعسكرة، ومثيلاتها في أميركا اللاتينية.
لذا، في التحاق إسرائيل، التي لا تقل قوموية وشعبوية عن الآخرين، إلى عالم يتشكّل مِنْ، ويشكّله، هؤلاء، ما سيمكنها (في نظر نتنياهو وشركاه) من تصفية المسألة الفلسطينية، مرّة واحدة وإلى الأبد، علاوة على ممارسة دور الشرطي المُعترف بفضله في الشرق الأوسط، والضامن لبقاء أكثر الأنظمة تخلفاً ورجعية ودكتاتورية في هذا الجزء من العالم. وهي التي وصفناها، بنوع من الكوميديا السوداء، بآخر ممثلي «البربرية» الآسيوية.
ولعل وصف هذا كله بالمقامرة يجد ما يفسّره، ويبرره، بقدر ما يتجلى فيه من تهديد للرصيد الرمزي والأخلاقي للدولة الإسرائيلية، المدينة بوجودها لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي لم تكن لتتمكن من امتلاك أسباب القوّة والبقاء في زمن الحرب الباردة، لو لم يكن لديها ذلك الرصيد، ولو لم تجتهد في استثماره من خلال التماهي مع، والتصرف كجزء مِنْ، «العالم الحر»، الذي يمثل العداء للتمركزات القوموية والشعبوية مصدر شرعيته، ودرّة «ديانته المدنية»، والرافعة الرمزية والأخلاقية لروايته المؤسسِة، وفي القلب منها مكافحة العداء للسامية.
وكجملة اعتراضية تجدر الملاحظة، هنا، أن النفوذ الهائل لأيديولوجيا وسياسات مكافحة العداء للسامية، في الديمقراطيات الغربية، حرّض الإسرائيليين، وأنصارهم، على محاولة الاستثمار فيهما بطريقة لم تكن لتخطر على البال حتى قبل عقود قليلة مضت.
ففي سياق محاولات حثيثة لتوسيع مفهوم العداء للسامية، وحقنه بدلالات جديدة، تم توسيع المفهوم لتشخيص العداء للصهيونية كنوع من العداء للسامية، وبناء عليه تجري محاولة، في الوقت الحاضر (تبدو ناجحة إلى حد ما) لتجريم العداء لإسرائيل كنوع من العداء للسامية. والمفارقة أن تناقص الرصيد الرمزي والأخلاقي لدولة لليهود يتناسب طردياً مع محاولة تعظيم الاستثمار في، وتوسيع، مفهوم العداء للسامية.
على أي حال، يقامر الإسرائيليون في الرهان على، والانحياز إلى، الشعبويات والقوميات الصاعدة في أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، وكل مكان آخر، وفي رصيدهم السياسي والأيديولوجي مقامرة ناجحة في السنوات القليلة التي سبقت وأعقبت نشوء الدولة. ففي تلك السنوات، ولأسباب كثيرة ومعقّدة، كانت الكتلة الاشتراكية حليفهم الرئيس، وقد نالوا اعترافها السريع، والحاسم، بالدولة بعيد قيامها، وخاضوا حرب العام 1948 بسلاحها. ومع ذلك، أدركوا مع هبوب رياح الحرب الباردة أن رهان المصير والمستقبل في أوروبا والولايات المتحدة، لا في الكتلة الاشتراكية.
والمهم، وهنا، أيضاً، مفارقة مُدهشة أن رهان الإسرائيليين على الشعبويات والقوميات الصاعدة، في الغرب وكل مكان آخر، يعني فقدان الرصيد التقليدي للمسألة اليهودية، ومكافحة العداء للسامية، وكلاهما مصدر من مصادر الرصيد الرمزي والأخلاقي لدولة لليهود، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الديمقراطيات الليبرالية. وهذه المسالة تحتاج إلى تفصيل، بالتأكيد.
فالشعبويات والقوميات الصاعدة معادية للديمقراطية وحقوق الإنسان، وعنصرية، في الجوهر، حتى وإن تصرّفت وكأنها لا تؤمن بشيء أبعد من السوق، والقوّة العارية، والمصالح والمنافع المادية المتبادلة. ولعل ما يجعلها جذّابة في نظر الإسرائيليين في الوقت الحاضر كونها، خاصة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، معادية للمسلمين، والأقليات، والمهاجرين، وغير البيض عموماً، ناهيك عن حقيقة أن الديمقراطية الليبرالية في أوروبا الغربية (على نحو خاص) أصبحت، بمعنى ما، عبئاً على إسرائيل. وحتى في الولايات المتحدة، ثمة ما يسوّغ هذا التأويل، إذا تأملنا جيداً كلام ساندرز «اليهودي»، و»يسار» الديمقراطيين المعارض لترامب، و»صفقة» القرن.
قلنا: إن الهدف من هذه المقامرة يتمثل في محاولة تصفية المسألة الفلسطينية مرّة واحدة وإلى الأبد، وأن نتيجة كهذه تبدو جائزة مُرضية إذا ما قورنت بالثمن المدفوع من الرصيد الرمزي والأخلاقي لدولة لليهود. ويبقى أن نُشير إلى ما تنطوي عليه من مخاطر.
فسواء نجحت المقامرة (بصرف النظر عن المسطرة التي يُقاس بها النجاح) أو فشلت (وبصرف النظر عن مسطرة القياس، أيضاً) فإن في رهان الإسرائيليين على الاحتكام إلى منطق القوة العارية وراء قناع عالم لم يعد «يؤمن» بالأيديولوجيا بل بـ»اليد الخفية للسوق»، وغير الخفية للتدخل العسكري، والجيوش الخاصة، وشركات المقاولات الأمنية، ما يعني المجازفة بفقدان شرعية دولة لليهود، فما قيمة دولة كهذه إذا كان فيها أفضل مصنع لشركة آبل، وصواريخ باتريوت، في العالم، إذا ما قورنت بالرصيد الرمزي والأخلاقي لأسطورة «العودة إلى صهيون».
عموماً، ثمة فرق بين شرعية النظام وشرعية الدولة (مطلق نظام ودولة) ولا شرعية في الحالتين بلا رأس المال الرمزي والأخلاقي.
وفي حال ضاع الفرق بين النظام والدولة، وتماهت شرعية هذا بتلك، سينجم عن تناقص رأس المال هنا نقص في رأس المال هناك، والعكس صحيح، وسينجب صدع هنا صدعاً هناك، والعكس، أيضاً، صحيح.
وفي كل الأحوال قد يحتاج الأمر عقوداً طويلة ما بين فقدان رأس المال الرمزي والأخلاقي، من ناحية، وتصدّع قاعدته الدولانية، من ناحية ثانية. ولنا عودة.