بقلم : زياد خدّاش
تأتي هي من بيت لحم، بيدين متشوقتين وبحقيبة -ترفض الإفصاح عمّا بداخلها- على ظهرها وعشرين عاماً من الفرح المؤجّل، قالت لي: اسمع، هذه مدينة أمي، جدي، عاش في أواخر الأربعينيات في حيّ الأرمن، كان حارساً لكنيسة القديس يعقوب في حوش الأرمن بباب الخليل، وكان أصغر مقاتل في «كتائب الجهاد المقدّس»، وقبل موته بلحظات، أعطاني جدّي رسالة، قائلاً لي: لا تقرئيها إلّا هناك، سأفتح هناك الرسالة، ونقرأها مع أحبُّ الحبّ في القدس، الحُبّ الذي لا وقت له، ولا شكل له، أحبُّه مؤجلاً أو محوّلاً أحبُّ الحبّ في القدس، مكسوراً بنقص لذيذ، وغرابة ملهمة.
آتي أنا من رام الله بكتاب في يدي وجوع أبديّ لحُمّص «أبو شكري»، وعلى ظهري خمسة وخمسين عاماً من الرغبة في التحوّل لجندي أشوري هارب من جيش «سنحاريب» في القدس.أحبُّ الحُبّ الغريب في القدس، أحبني مشغولاً عنها بالحديث عن مكان لا يصدق؛ هو سطح المستشفى الذي ولدت فيه قبل خمسة وخمسين عاماً، وصار لاحقاً فندقاً، أطل على الغيوم، أحب يديها وهما تنفصلان عنها وعني، باتجاه السور، لا تسأم صغيرتي ذات الحقيبة الغامضة على ظهرها من الإشارة لسور أو لحديقة قديمة أو لمعبد أو لبلاطة أو لوجه مقدسي عتيق.
أحبُّ الحبّ الغريب في القدس، أحبُّها وهي تشتم خطوات جندي لمس ظلّها، فأقول لها: للشتم وقت وللقلب وقت، تعالي نتبادل القبلات في ظلام زقاق، فتضحك، وتلكزني بعينها: الشتم كل الوقت لأنهم يحتلون كل وقتنا، ثم إن فمي مشغول بالشتم والدهشة، أحبُّها وهي تقضي ساعات على (سطح الخان) وهي تتساءل بلوعة: كيف أتحول إلى شجرة هنا؟ وتشير إلى مستوطنين يمرون: مَن هؤلاء؟أحبُّها وهي تنشغل عن عطشي بالتقاط الصور لنملة أو لطفل أو لقدميها وهما ينهبان الوقت المنهوب، أحبّني وأنا منشغل عنها بحديث مع عجوز فلسطيني قال إن أباه كان صديقاً لمحمد إسعاف النشاشيبي، وأنه يموت لو خرج من البلدة القديمة لأكثر من يومين، وأنه خرج مرة مضطراً لزيارة المقاطعة لساعات مع وفد مقدسي ترحيباً بأبي عمار أوائل التسعينيات، والمرة الثانية حين ماتت أخته في عمّان فاضطر للسفر يومين فقط.
أحبُّ الحبّ في القدس، وجنود حولنا في أقفاص حديدية، مع خوفهم ومعلباتهم، وخلفنا شاب فلسطيني (أزعر) يرقص أو يقفز أو يصيح أو يضحك بصوت عال، أو يقرأ في كتاب أو يوشوش بنتاً.أحبُّ الحبّ في القدس، الحُبّ الذي لا وقت له، ولا شكل له، أحبُّه مؤجلاً أو محوّلاً، أحبُّ الحبّ في القدس، مكسوراً بنقص لذيذ، وغرابة ملهمة، هي تأتي من بيت لحم، وأنا من رام الله، في الصباح المبكر، قبل الشمس والجنود، أحبُّ أن ننسى لماذا جئنا، أن نفعل أشياء لم نفكر فيها، كأن نقبّل أيادي المسنين في الطريق مثلاً، أو أن نرمي بكتاب ثمين في زقاق لمجهول، أو أن نشتري كعكاً ونبقي الباقي الكثير للبائع المصدوم، أو ندخل بيتاً عشوائياً ونطلب السماح بالنوم لدقائق على أكتاف الجدّات فيه.
(حفيدتي الجميلة: سوف تأخذك جيناتي إلى أعمق المدن، أكاد أراك الآن وأنت تمشين مع صديق يحبّك، لا تخافي من الحب، خوضيه كبحر هائج، فلا حبّ دون هياج، لقد أحببت امرأة غير جدتك، امرأة هائجة في مرحلة هائجة، كانت القدس عظمي، والمرأة الأخرى لحمي، كانت جدّتك حلاً اخترعته لمواصلة العيش، بعد أن اختفت امرأتي فجأة دون سبب، بينما كنت أمشي معها في القدس، كان بيتها في حارة النصارى، ذلك المنحنى الحاد الذي يوصل لباب الخليل، اذهبي إلى هناك، قفي لدقائق مع صديقك، وهناك على أحدكما أن يختفي عن الآخر إلى الأبد).أنهت صغيرتي قراءة رسالة جدّها المقاتل القديم، وضعتُ رأسي في الأرض، أغمضتُ عينيّ، اتكأت على جدار فندق،فتحت عيني بعد دقيقتين فقط.كانت صغيرتي قد اختفت إلى الأبد.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
في ذكرى اغتصاب البلاد: مساء الخير يا سيدي
شخص ما يخبئ لي شيئاً