بقلم : زياد خدّاش
منذ ثلاثين عاماً وأنا أحاول أن أكتب عن وجه ياسر أبو غوش وهو يتدلى من باب دورية الاحتلال بعد استشهاده وسط رام الله، العام 1989. كنت أهم بالعودة إلى المخيم حاملاً بيدي مجلد القصص القصيرة لغسان كنفاني مستعيراً إياه من مكتبة البيرة.طاردوه من مدخل الحسبة حتى منتصف الشارع الذي يؤدي إلى مسرح القصبة وبرصاصة واحدة في الرأس قطعوا الطريق أمام اكتمال حكاية قلب متجول، شجاع ووسيم حد الشمس.رأيته وهو يركض أمامهم، كان طويلاً جداً، وحين سقط اعتقدت لأول وهلة أن رأسه ارتطم بغيمة، وحين سمعت صوت الرصاصة، أردت أن أصدق أن الصوت كان صوت قلبه وهو يسقط مضرجاً بالمطر.
مات قمر الانتفاضة الأولى، حمله القتلة ورموه في (الدورية) واضعين رأسه على الحافة حتى يتصفى دمه خارج الدورية.تلك إحدى الصور القليلة التي هزمتني دلالتها المرعبة والدموية، تلك الهزيمة التي تجمد الحبر في القلم والقصة في القلب.كيف أقدر على كتابة نص الوجه الأشقر المدلّى مثل مزهرية مدلوقة على وجهها يا الله؟، كيف يتقدم الأدب ليحكي قصة دم شجاع طويل القامة، عمره سبعة عشر عاماً؟.سيبقى نص ياسر في خزانة القلب جرة نبيذ معتقة وغير مكتمل مثل وطنه العظيم الذي لم يصل بعد، ومؤجلاً بالتعب الضروري وباستمرار غير قابل للتعديل تماماً مثل نشيد بلاده: (موطني موطني).
سقط مجلد قصص غسان من يدي كما سقطت أشياء الناس من أياديهم في زحام هروبهم أمام صوت رصاص القتلة وهم يمنعون التجوال.لكني حتى هذه اللحظة لم أصدق أن المجلد سقط مني، أقسمت لأصحابي أني رأيته يطير مرفرفاً فوق القمر الأشقر، ليضيف قصته إلى قصص النار والجمال والحب.والغريب أنني في العام الماضي وأنا أفتح لطلاب السابع مجلد القصص وفي إحدى غيبوباتي خرجت مني عبارة (سأقرأ لكم الآن قصة ياسر الأشقر الطويل). ثم تراجعت بسرعة لأذهب الى قصة (منتصف أيار) الموجودة فعلياً في المجلد.في ساحة المدرسة في اليوم الثاني وقف أمامي أحد طلاب السابع.
- أستاذ أبوي شرالي مجلد غسان من المكتبة، دورت أنا وياه على قصة (ياسر الأشقر الطويل) وما القيناها.