بقلم - زياد خدّاش
رقصة
في صباح شتاءٍ بعيد، صعدت بنتٌ في العشرين على نصب الأسود التذكاري في رام الله، ولسببٍ ما رقصت هناك، أمام المارة. لدقائق معدودة، صفنت رام الله تلك الصفنة الغبية التي ترافقت مع (ريالة) تسايلت من زوايا الفم المفتوح، لأشهر كاملة انشغلت رام الله وتضامنت معها المدن الفلسطينية الأخرى في النفور والسخرية والفضول تجاه رقصة البنت المجهولة، (هاي وحدة ----- أكيد، لا يا زلمة هاي هبلة وجاهلة، يا جماعة احتمال اتكون بتغيظ أو بتلفت انتباه حبيبها اللي تاركها، بس يفضح عرضها ما أزكاها)، حتى هذه اللحظة وبعد سنواتٍ طويلةٍ أسمع أصواتاً خلفي تهمس في الشارع: "هون رقصت البنت المجنونة".
الذي لا يعرفه أحدٌ وأعرفه أنا وشخصان هما أبوها وشقيقها اللذان تعرفت عليهما بالصدفة لاحقاً، هو أن هذه "البنت المجنونة" كانت قد عرفت في نفس اليوم الذي رقصت فيها أنها مصابةٌ بسرطان الدم، وقررت أن تهزم المرضَ بالفرح والجنون كما قال لي شقيقها، لم تهزمه بطبيعة الحال، ولم تكن الرقصة مقنعة أو مؤهلة لطرد السرطان، ماتت "البنت المجنونة" بعد الرقصة بسنةٍ فقط.
أبو كنفوشة
عند السابعة والربع من صباح كل يومٍ، وأمام فلافل السيوري وسط رام الله تحديداً، يصيح عليَّ من بعيد شابٌ لم يُكمل عقده الثاني بعد، يهبط من سيارةٍ فيها امرأةٌ ورجلٌ يبدوان متعلمَيْن ووقورَيْن: "شو الأخبار يا أبو كنفوششةةةةةة"، يتكرر هذا الموقف معي في أماكن كثيرة، "شو الوضع يا حج؟ إحلق شعرك يا عم"، يترافق ذلك مع ضحكاتٍ وغمزٍ ولمز وحركات. أعجز عن عمل أي شيءٍ، أُسرع في المشي نحو عملي وأنا منذهلٌ من فكرة أن مراهقاً يسخر في شارعٍ عامٍ من رجلٍ كهلٍ مثلي، فقط لأن شعره طويل وغير محلوقٍ بطريقة تشبه شعر الناس.
أولاد عمي
في زمنٍ قديمٍ، شخصٌ ما تقاتل مع ابن عمٍ لي لسبب لا نعلمه، تقاذفا بالحجارة وتضاربا حتى الدم وسط المدينة، لسببٍ ما. عاد ابن عمي إلى المخيم وهو يصيح فينا: "يا ولاد عمي وينكم، في واحد ظربني قتلة، ونزل دم راسي". لن أنسى ذلك الليل الدموي، هب أبناء العمومة في المخيم، متضامنين مع ابن العم دون حتى أن يسألوا عن تفاصيل ما حدث، ركبوا حافلتين، ملؤوهما بالصياح والعصي، وانطلقوا غاضبين إلى أحد أحياء المدينة، وهناك سمعت بوضوحٍ صياح النسوة والأطفال، بعد أن هرب الرجال، وهن يحاولن تفادي حجارة أولاد عمي، بإغلاق الشبابيك، وبالصياح الاستجدائي من الأسطح. رويت هذه القصة للأصدقاء عشرات المرات، في كل مرةٍ كنت أُخفي معلومة مخجلة، وهي أنني كنت واحداً من أبناء العم البُلَهاء الذين ركبوا إحدى الحافلتين وصاحوا ولوّحوا بالعصيّ.
يا شيعي
كذبتُ على طلابي مرة، وقلت لهم، في حمّى غضبي منهم، لأنهم استغربوا، بشيءٍ من الاستهجان، وجود طالبٍ فلسطينيٍ مسيحي، حضر إلى مدرستنا بشكلٍ مؤقت: جدتي مسيحية واسمها جينيت، وزوجة أخي كلدانية من العراق، وصديقة أعز صديق عندي كردية، وجدة جدي يهوديةٌ فلسطينية، وتابعت غير كاذب هنا: وهأنذا أمامكم فلسطيني فلاح منتمٍ لجذوره ومفتخر بهويته، ومنهار أمام "المسخن" الفلسطيني، ولكن مفتوحٌ على العالم، غناءً ورسماً وأدباً وعشقاً وبحراً وأكلاً ورقصاً. أحب الموسيقى الإيطالية، وأعشق الكبة الكردية، وأهيم بالرواية اليابانية، وأجن بعيون الإيرانيات، وأتابع بلهفةٍ السينما البرازيلية.
سكت طلابي، سكنت المقاعد والمدرسة كلها، ووجم كل شيء، الممحاة والسبورة والنوافذ والستارة التي كان الريح يلعب بشعرها، بل سكتت الريح نفسها، تحمّس لكلامي طلابٌ قليلون، واحتار كثيرون، ورفضني قليلون أيضًا. في اليوم التالي، كان ولي أمر طالب يسلّم وزارة التربية ما يشبه الشكوى على أستاذ مجنون، يعلّم طلابه حب اليهود والنصارى، وفن التغزل في عيون البنات الإيرانيات (الشيعيات).
حدث ذلك في أواخر التسعينيات.
حتى الآن (وآخر مرة أمس في شارع مصلحة المياة) ما زلت أسمع أصواتاً من بعيد في المدينة تنادي عليّ:
"ايش يا شيعيييييييييييييييييييييييييي".