بقلم : هاني حبيب
من المفترض أن تبدأ بعد أسبوع مفاوضات بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية والبرية بمشاركة أميركية فعّالة وبرعاية الأمم المتحدة، في مدينة الناقورة الحدودية، وذلك إثر إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي قبل أيّام عن التوصّل إلى اتفاق إطار بهذا الشأن، مستخدماً لغة جديدة في الحديث عن إسرائيل، عوضاً عن الاستخدام المتداول والشائع في الأدب السياسي اللبناني الرسمي والشعبي «فلسطين المحتلة، العدو، دولة الاحتلال»، الأمر الذي أدّى إلى حديثٍ واسع النطاق على مختلف المستويات بأن هذه المفاوضات ما هي إلا خارطة طريق للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
التوصّل إلى اتفاق إطار لترسيم الحدود يعتبر إنجازاً أميركياً إسرائيلياً بامتياز؛ كونه يأتي بعد رفض متواصل من قبل لبنان الرسمي والشعبي لترسيم الحدود استمر طيلة ثماني سنوات، تحديداً منذ طرح المبعوث الأميركي فريدريك هوف عام 2012 عرضاً لتقاسم المنطقة البحرية المتنازع عليها ومساحتها 860 كم2 على أساس أن يحتفظ لبنان بــــ500 كم من باقي المساحة، لبنان رفض بشدة هذا العرض في حينه باعتبار أنّ هذه المنطقة ليس متنازعاً عليها كونها لبنانية بالكامل.
وتعزّز الموقف اللبناني الرافض لترسيم الحدود وفقاً للاشتراطات الإسرائيلية؛ بعدما أعلن حسن نصر الله أنّ «حزب الله» سيرد بقوة على قيام إسرائيل بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية؛ بعد أن قامت إسرائيل بالفعل بعمليات تنقيب أولية، ولهذا الغرض وخشية من الرد المقاوم وتهديد «حزب الله» بمهاجمة خطوط الغاز الإسرائيلية، عقدت إسرائيل اتفاقات مع كل من قبرص واليونان ومصر لإنشاء أنبوب بحري لنقل الغاز الإسرائيلي إلى اليونان ثم إيطاليا ومختلف الدولة الأوروبية، هذه الاتفاقات تمت من قبل إسرائيل بغرض توفير حماية لخطوط الغاز التابعة لها خشية من رد فعل «حزب الله».
لهذا لم يتمكّن التحالف الأميركي الإسرائيلي فرض ترسيم الحدود مع دولة الاحتلال من قبل لبنان، إلى أن جاء إعلان نبيه بري ليشير إلى نجاح هذا التحالف في استثمار تطورات جديدة ومتغيرات في الخارطة السياسية الإقليمية والدولية للضغط على لبنان الرسمي من أجل البدء في المفاوضات على هذا الملف، هذه الخارطة الجديدة تتعلّق بقرب الانتخابات الرئاسية الأميركية وإمكانية مغادرة ترامب للبيت الأبيض، ما جعل دولة الاحتلال تضغط على واشنطن لكي تضغط بدورها على لبنان من أجل الاستفادة من الوقت المتبقي لإدارة ترامب في البيت الأبيض، في وقتٍ يعاني فيه لبنان من اقتصاد منهار وحراك شعبي متواصل في مواجهة الفساد وفشل النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية في التصدي لهذه الأزمات المستفحلة، ومن الطبيعي أنّ لبنان في مثل هذه الظروف لا يمكّن له أن يفاوض من موقع يسمح له بالتوصل إلى تسوية عادلة.
وتعتقد المستويات الرسمية في لبنان أنه بالإمكان التعويض جزئياً عن أسباب الانهيار الاقتصادي، وإيجاد حلولٍ له من خلال استثمار النفط والغاز في المنطقة البحرية اللبنانية، حتى لو كان هذا الأمر يؤدي إلى تقاسم الحقوق اللبنانية في هذه المنطقة مع إسرائيل، ما يشير إلى أن المستوى السياسي في لبنان بات مستعداً لتنازلات من شأنها الاعتراف بحدودٍ جديدة مع دولة الاحتلال في البر والبحر، رغم أن اتفاق الهدنة عام 1949 يمنح لبنان كل هذه المناطق البحرية والبرية التي باتت «متنازعاً عليها» والتي يجري التنازل الآن عن جزء كبير منها في سياق ترسيم الحدود، يضاف إلى ذلك أنّ مواجهة حالة الانهيار الاقتصادي لا تتم عبر تنازلات لإسرائيل، بل من خلال التصدي لتفشي الفساد في نظام الحكم وإجراء تغييرات حقيقية تطال مؤسسات الدولة القائمة على المحاصصة الطائفية، والتصدي لكل المحاولات الرامية إلى التنازل عن حقوق يعتبرها البعض حلاً للانهيار الاقتصادي والسياسي في البلاد.
ما كان للبنان أن يخضع للاشتراطات الأميركية الإسرائيلية لولا أن موجة واسعة من عملية التطبيع العربي الجارية على قدمٍ وساق، ما سهّل لحكومته الولوج بهدوء للانسياق وراء هذه الهرولة التطبيعية تحت اسم ترسيم الحدود، خاصة أنّ لبنان يعتمد اعتماداً كبيراً على دعم مالي من دول التطبيع العربية لإنقاذ اقتصاده المنهار، ولكن بثمن قد لا يستطيع لبنان دفعه في ظل تصاعد الرفض الشعبي لهذا الاتفاق من حيث المبدأ.