بقلم : سما حسن
تنسى من كثرة مشاهد الألم بسبب الحروب، وتنسى لأن القصص الإنسانية كثيرة بسبب إصابة البسطاء في الحرب. إنهم يصابون في كل فاجعة بمقتل، يصابون في أعز ما يملكون على قلته، ولو كان ما يملكون هو بيت من صفيح فهو أول ما تقصفه طائرة مجنونة في هجمة أولى، ولو كان ما تملكه عربة حمار فسوف تصاب العربة.
كان للأب زوجة وعائلة ويعمل بائع ترمس أمام إحدى مدارس «الأونروا» في مخيم المغازي، ولذلك حين جاءت الحرب مرة أخرى وليست أخيرة فقد أخذت زوجته وكتباً للرضيعة «جنى» الحياة لكي يلتقط معها الأب وبعد ست سنوات الصورة التي أسرتني وأسرت قلوب الآلاف حول العالم.
أحمد حماد أبو صالح.. لم أقرأ هذا الاسم من قبل، ولكني حفظته اليوم، وسمعت ضمن القصص الإنسانية عن رضيعة قذفها القصف الشديد فوق ركام بعيد فكتبت لها الحياة، ويبدو أن مثل هذه القصص تتكرر بصور مختلفة مع أبناء الشعب الفلسطيني، فقد مات جدي رحمه الله وهو يحكي عن القطعة النقدية التي أنقذت صاحبها من رصاصة في قلبه، حين قام جنود الاحتلال بصف المواطنين على حائط، وبدؤوا بإطلاق النار عليهم تباعاً، وكأنك تقوم برش سماد فوق أرض مقسمة إلى صفوف، ولكن الرصاصة لم تقتله، وكتبت له النجاة وظل الجميع يتحدث بقصته حتى بلغ من العمر عتياً.
قالت جدتي يوماً: اللي له عمر لا تهينه شدة، وابن الحياة ارميه البحر بيرجع، وابن الموت سوف يموت حتى لو أودعته في صندوق مقفل وألقيته في البحر. ولاحظوا أن البحر قاسماً في مثلين من أمثال جدتي، فمرة هو مهلك ومرة هو حافظ، وفي النهاية تبقى قصة أن الحياة توهب لمن كتبت له، وها هي الطفلة «جنى» كبرت وأصبحت في سن المدرسة، فالتقط النشطاء صورة لوالدها وهو يسحبها من يدها ويحمل حقيبتها ويسبقها بخطوة إلى مدرستها، لكي تتلقى تعليمها الأول مثلها مثل آلاف التلاميذ من شعب فلسطين، والذي يسجل أعلى نسبة تعليم في العالم رغم كل الظروف التي تحيط فيه، فنسبة التعليم بين أبناء الشعب الفلسطيني تصل إلى 96%.
جنى تلك الصغيرة التي عقصت شعرها إلى الخلف، وكنت أتمنى أن أشبع فضولي لأعرف من الذي قام بعقص شعرها إلى الخلف، إن للشعر حين يعقص أو يضفر إحساساً لا يوصف عند الفتيات الصغيرات، خصوصاً حين تتخلله أصابع الأم، وإن ليد الأب حين تسحب الصغير في أول يوم للمدرسة إحساساً لا ينسى أيضاً، ولي مع يد أبي رحمه الله إحساس لا يزال أثره تحت جلدي حتى اليوم.
في صباح مشرق وبعد أن حملت حقيبتي سحبني أبي إلى المدرسة، وكان الطريق طويلاً وغير معبد، وتقطع الحي الذي نسكنه كثبان رملية عالية، حتى وصلنا إلى أطراف المخيم حيث تقع مدرستي وتقابلها المدرسة التي كان يعمل بها أبي معلماً.
ذلك الشعور وكفه تحتضن كفي الصغيرة، وصوت لهاثه، ونبرات حثه لي لكي أسرع وخلفنا إخوتي الذكور، وإلى جانبي أختي التي تكبرني بعام. هذه القافلة الصغيرة والتي يقودها الأب لم يكن لي أن أنسى وقع خطواتها، ولا لفتاتها ولا سرعاتها المتفاوتة، ولا حتى بكاء أخي الأصغر من أنه قد تعب من السير، واعتراض أبي بصوته الجهوري بأنه رجل، وبأن الأولى أن أشكو أنا كوني بنتاً، ولكن ذلك لم يكن يزيدني إلا تحملاً.
بقيت الذكريات للشارع الرملي الذي أصبح معبداً، وامتلك أبي سيارة وحملنا بها لاحقاً إلى المدارس الإعدادية والثانوية، ولكن ملمس يد أبي لم يفارقني، كان شعور الأمان الذي لا يجعلني أشعر بخوف من أي شيء، أن البنات المؤنسات الغاليات يحببن الآباء كثيراً، فهن الحضن الأول والأمان الأول، وذلك الرجل الذي يصبح زوجاً لا يعوض ضغطة كف الأب على كفهن الصغيرة، ولا يعوض خوفه ولا لهفته ولا صوت لهاثه وهو يسأل: هل تعبت لأحملك على ظهري يا بنية؟؟
ألم أقل لكم إن هذه الصورة تستحق أن تكون صورة العام، فلن تكف غزة عن تصدير إنسانيتها، وبؤسها ولقطاتها إلى عالم توقف كثيراً عن فهم معاني جميلة لا يعرفها إلا أب يسحب صغيرته نحو المدرسة لأول مرة.