بقلم : تحسين يقين
دائرة، أم مثلث، أو هل من ثمة شكل هندسي له تجليات فلسفية!هي دائرة الزمان بدءاً وانتهاء، ومثلث الأماكن: يافا، دمشق، رام الله، لعل بيروت تجعله مربعاً، وتونس تخمسه، وقبرص تسدسه، لكن تبقى جغرافية المثلث، هي الأكثر حضوراً وزمناً.وللدائرة أكثر من بداية ونهاية، لكن حياته، بدأت هناك في يافا، ولكن لم تكتمل هناك، بل انسجمت مع معظم العمر في الشتات، لتستقر الروح هناك في اليرموك، بالشام، بكل تشظيات الأمكنة والأزمنة.
ربما اكتملت الدائرة مجازاً رمزاً، كونه توفي في مستشفى يافا الذي يحمل للمفارقة اسم مدينته التي ولد فيها في عزّ النكبة، في 16 أيار 1948.
مر عام على الرحيل.
يرتبط الاسم بذكريات، وقراءات، ومشاهدات؛ فلعلنا أولاً نلقي على الكاتب والإنسان السلام، وعلى ابتسامته الهادئة، وروحه الطيبة.لعل هناك أخيراً، وحتى لو بعيداً عن "يافاه"، ترقد روحه بسلام، ويختفي الخوف؛ حيث كان قد نسب نفسه له؛ لقد بقي يوم ولادة شبيب وظروف لجوء أسرته مطبوعَين في ذاكرته، حيث وصف نفسه في مقابلة في الذكرى الـ 67 للنكبة بأنه "ابن الخوف".كان يمكن أن يكون واحداً ممن تركوا، خلال التهجير، حينما كان الأهل يظنون أن الصغير هذا أو ذاك مع أحد الكبار في العائلة، كحال خلدون، في رائعة غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، فقد كان يذكر بشيء من الحزن والسخرية، "كيف قذفته النكبة رضيعاً من حي العجمي اليافاوي العتيق والشهير، وضاع من أسرته أثناء فرارها، إلى أن تعرفت عليه عمته من "تعليقة ذهب" صغيرة وضعت على صدره، قبل ركوب عائلته السفينة المتجهة إلى بيروت".
كان يعمل في مركز الأبحاث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير عندما تعرض مبناه للتفجير بسيارة مفخخة بتوجيه إسرائيلي يوم الخامس من شباط 1983 واستشهد تسعة من العاملين. إنه يعمّق ما قاله يوماً" إنه ابن الخوف.
هو قدر الفلسطيني، وهو ما ذكره الخالد إميل حبيبي في رائعته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، واحدة من أهم الروايات العربية الساخرة، حين ينجو سعيد أبي النحس، بفضل تلقي الحمار رصاصة الغزاة المرابطين على الحدود بين جنوب لبنان وشمال فلسطين، منعاً للمتسللين (اللاجئين) من العودة للوطن.وقد أتيت على ذكر إميل حبيبي، لأن دكتور سميح كرر أمامي أكثر من مرة عبارة حبيبي:" أهلي كلما رأوا برجاً هدموه"، التي ربما تأثر قائلها ببيت المقنع الكندي:
فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومهُمْ وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدا
ويبدو أن دكتور شبيب قد تأثر بإميل حبيبي، في كتيبه: "تداعيات على هامش التواجد الفلسطيني في لبنان"، وعلى الرغم من المنحى التحليلي النقدي، إلا أنه امتلك سرداً جمالياً ساخراً، أثار حينما صدر جدلاً، لكن سرعان ما خبا الجدل.كاتب وباحث وأكاديمي، ومناضل وإنسان، له تجربته التي امتدت حتى الرمق الأخير؛ حيث بقي وفياً للبحث والتفكير. ويبدو أننا سنبدأ به باحثاً جاداً أميناً، لما للبحث والاستقصاء من أهمية ذاتياً وموضوعياً.درس شبيب التاريخ في جامعة دمشق، وفي سن مبكرة، اتجه للبحوث، وعادة يكون ذلك اختيارياً، فهل ثمة من دلالة تلقي الضوء على الكاتب د. سميح شبيب؟ أظن أن ذلك يرتبط بالشخصية وخياراتها وشغفها بالبحث. والمهم هو أن روح الباحث لديه انعكست على مجمل نشاطاته.
بدأ الكاتب بالقراءة، والاطلاع، والتردد على النشاطات والكتاب والباحثين، وفي ظل ذلك كله، احتفظ بدوره النضالي ضمن مجموعات العمل الثورية. عمل في مركز الأبحاث الفلسطيني بمقره في بيروت وأكمل دراسته الأكاديمية، فحصل على درجة الماجستير من الجامعة اليسوعية عن بحث بعنوان "حزب الاستقلال العربي في فلسطين 1932-1933" الذي صدر عام 1981 عن مركز الأبحاث الفلسطيني، والذي قام بتقديمه الراحل أكرم زعيتر، حيث قيمه عالياً، مشيداً بأسلوبه البحثي، ويمكن الرجوع لذلك التقديم المهم من قامة كبيرة، لكاتب وباحث شاب.
وأظن أن كتبه: "قضايا ومعضلات حركة التحرر الوطني في العالم الثالث"، والبنية التنظيمية للأحزاب الوطنية الفلسطينية"، و"منظمة التحرير الفلسطينية وتفاعلاتها في البيئة الرسمية العربية"، و"حكومة عموم فلسطين، مقدمات ونتائج"، إضافة إلى كتابه عن حزب الاستقلال الذي ذكرناه، ترينا أن عمله كمؤرخ لم ينفصل عنه كرؤية نقدية وطنية وموضوعية، أكدت على حسه النقدي الذي احتفظ به حتى آخر المشوار.
يعود سميح شبيب إلى الوطن، فأتعرف عليه في مفوضية العلاقات العربية، التي كان يترأسها في ذلك الوقت الرئيس أبو مازن، ويبوح لنا عن صعوبات العودة. انضم لكتاب جريدة "الأيام"، فصرت أتابعه، فتعرفت عليه أكثر، فوجدته إنساناً عذب الحديث جميل اللقاء. كان يومها يقوم بعمل تقارير سياسية، يرصد فيها أحداث الأسبوع، وربما كان لذلك أيضاً علاقة بكونه باحثاً، ثم عاد لكتابة المقالات.
توثقت العلاقة معه، حين كلفني بتحرير القسم الثقافي في مجلة "شؤون فلسطينية" بعد إعادة إصدارها من رام الله، حيث كان رئيس التحرير. وفي كل ذلك كان مدرسة جميلة، امتزج فيها الأكاديمي بالكاتب والمناضل والإنسان، أذكر أنه كان إنساناً شفافاً، تغرورق الدموع في عينيه، خاصة حينما أتى مرة على ذكر أخته، فقد قرأت حزناً عميقاً ووفاء نادراً.
لا بدّ من يافا!
ظل الحزن في قلبه على "يافاه"، التي هجّر منها رضيعاً، كيف تبدو يافا والبيت!
تصاحبه السخرية والشجن، فحين عاد سميح شبيب إلى الوطن، كان ابن 45 عاماً، ولم يكد يصل رام الله قادماً من غزة حتى "تهرّب" إلى يافا لأول مرة عام 1993.
ماذا كان يشعر وهو يبحث عن بيت عائلته في يافا؟
لم تسعفنا الأيام لنسمع أكثر فأكثر، فقد صار يعاني من آلام رجله، لقد كان لجلوسه طويلاً ليكتب أثر على صحته. انقطعنا عن مركز الأبحاث، لكنه ظل دافئاً حين نتحدث معه، وحين نلقاه، وفي كل ذلك كان إنساناً جميلاً.
كانت آخر المشاركات المشتركة، حينما تحدثنا عن الراحل الأستاذ حسن مصطفى ابن بتير البار، في ذكرى مئويته في بيت لحم، ونذكر حديثه الجميل في رحلة العودة مروراً بوادي النار، فقد كان مولعاً بالتاريخ وحب الوطن، وتمنى لو يبقى ليكتب ويؤرخ.. ويعلمنا.. والحق أنه باحث متمكن أصيل وملتزم.
دائرة، أم مثلث، أو هل من ثمة شكل هندسي له تجليات فلسفية! هكذا تساءلنا في المدخل، فلو عكسنا، سيكون التساؤل: هل للفلسفة تجليات هندسية؟
تلك هي فيزياء علاقاتنا بالأماكن والأزمنة، بل وكيميائها وموسيقاها أيضاً.
مرّ عام، صيف آخر، وسيظل الحضور متوهجاً جميلاً...