بقلم : تحسين يقين
أوروبي ستيني متقاعد، محب للجمال الشرقي، يهيم بالزخارف والمنمنمات العربية الإسلامية، لدرجة استعارة طويلة لمخطوطين نادرين دون إذن المتحف، تدفعه الرغبة للسفر في الأمكنة والأزمنة، فيقرر الذهاب إلى بلد منشأ المخطوطتين، في الشرق العربي، فيقيم لا كزائر، ولكن كمقيم دائم، يندمج بالمجتمع هناك، بما في ذلك ما يحدث من اضطرابات، لا يسلم منها، فيتعرض للإيذاء كونه ابن بشرة بيضاء، من بلد مستعمر مكروه، فتتغير ملامح وجهه من أثر أحد الانفجارات فيما بعد، فيساعده أحد السكان المحليين في انتحال شخصية رجل ميّت، فيعيش بعدها مثلهم كابن تلك البلاد، فيتنقل من عمل إلى آخر، وفي كل عمل يلتقي بشخصيات، بعضها تظل معه، وأكثرها تذهب لحال سبيلها، يكون خلال تلك الرحلة الشرقية مسكونا بطيف صانعة جمال، يحيا معها في خياله كثيراً، فتصير جزءاً منه، بل يخلق سرداً خاصاً بها في الماضي والحاضر المتخيل، يصير سرداً موازياً لما هو فيه في الحاضر.
تحصل المفارقة، حينما يحاولون تهريبه الى الغرب، كمهاجر لاجئ؛ فبسبب ما تعرض له، وانتحاله المشروع لتلك الهوية، مع تغير لونه بعد الانفجار، فكيف لمثله أن يعود متسللا؟ ان ذلك كان بسبب خوفه من ملاحقة القضاء بسبب المخطوطين. لكنها مفارقة فعلا. تتسارع ظروف الاضطرابات بسبب الإرهاب، فيضطر جزء من سكان البلاد للهجرة الى الغرب الأوروبي، بما في ذلك بلده هو، فيما يختار هو البقاء في بلد التصارع والتنازع، متحملاً آلام وجوده، وبصمة تلك الآلام على جسده، محتملاً في صبر لكل ما يمرّ معه، وصولاً لحالة تكون فيها حياته مهددة صحياً، تقرر فيها ابنته أو رفاق رحلته عودته الى بلده، حيث يقيم في نزل كبار السن، الذي يصبح مجالاً لحوارات تاريخية وحضارية، بين الغربيين أنفسهم، وبينهم وبين شرقي هو صديقه ورفيق رحلته، الذي اختار اللجوء الى الغرب في لحظة تاريخية صعبة. تلك هي مفارقات أدبية وإنسانية، أن يقيم في الشرق، فيما يهرب أهله طلباً للأمان في الغرب.
سؤالان يظهران هنا: - ما هو سرّ ارتباطه بالجمال الشرقي لدرجة اختيار الإقامة هناك رغم الظروف الصعبة وحالة اللاأمان؟
- السؤال الثاني مرتبط بالسؤال الأول، ما سرّ نظرته الحضارية المتصالحة والمتسامحة؟
ستكون ربما الإجابة عن الأول إجابة نفسية جمالية، فيما ستكون الإجابة عن الثاني إجابة معرفية وتربوية، حيث يبدو أن تلك الجوانب قد تفاعلت معا وشكلت شخصية "الغريب" أو سامر فاضل الأمير، التي تم تشجيعه على انتحالها حفاظاً على سلامته، بعد حادثة الاعتداء عليه كأجنبي أبيض، من الفصل الخامس حتى الثالث عشر.
لماذا مرهاة؟
لغة تعني ما له علاقة بالسرعة، وهنا، ماذا ستعني من رمزية؟ تلك إجابة غير معجمية بالطبع.
لماذا مرهاة الشخصية في الرواية؟ ولماذا مرهاة الرواية؟
كأنها أرادت ان تقول رسالة إنسانية؛ تصب في احترام الإنسان، من خلال احترام الحضارات، حيث نجد الكهل حريصا على إيداع، أو توصيل وثائقه لجهة أمينة تقوم بالحفظ. ويتم تعميق الاحترام، عبر نضج البشر، حيث نجد كبار السنة نزلاء بيت المسنين أكثر موضوعية وإنسانية ونقداً، خصوصاً للإعلام الذي يكرس الرؤية النمطية السلبية تجاه الآخرين. وهنا نحن إزاء نضج إنساني، أو صحوة للضمير، ولو متأخراً. لذلك ثمة مسحة وجودية اكتسب بها الرواية. وثمة رؤية نقدية للذات الأوروبية، تمثل ذلك في قوله: أنا من "بلاد تعظيم الأنا"، فيما تشيع الرؤية الجمالية للشرق. لذلك أيضا لم تذكر الرواية لا اسم بلد الغريب، ولا البلد الشرقي، بل جعلته معوماً مموهاً، حتى ينطبق المعنى على عالم الحضارتين.
لعل الدائرة في اكتمالها دلت على تلك الرسائل، فما أصابه من نضج مبكّر (الغريب) أصاب رفاقه في بيت المسنين، الذين رغم راحتهم كأفراد عن حياتهم الخاصة، إلا أنهم غير راضين عما آلت إليه الأمور في الفضاء العام والعالمي، وهم في ظل الشعور النقدي لما يرون الآن، بعد الوقوع في أسر الهرم، لم يعودوا قادرين لا على القيام بدور، أو حتى التأثير في عالم الغد.في فضاء رحلة الغريب الأبيض، تتاح له أن يرى الناس كما هم من دون تكلف ولا تمثيل، فبعد حادثة التعرض للأذى بسبب شكله الغربي، نتيجة نفور المشرقيين، ومنهم العرب، للغرب المستعمر، الذي يحملونه وزر ما حلّ ويحل من اضطراب وفوضى ونزاعات، فإنه ببطاقة هويته الجديدة يصير مواطناً، فيرى الصورة من الداخل، لا من السطح الإعلامي. صار سامر فاضل الأمير، وعمل حارس متحف، الذي شهد سرقة الكنوز الحضارية وتواطؤ الفاسدين، عمل مزارعاً، بائع خضار، عامل مطعم، من الفصل الخامس حتى الثالث عشر؛ فكان من خلال هذا الوجود العادي، قادراً على رؤية الحقائق، وكأنه يكشف الغبار، ليرى بوضوح، وكيف أن هندسة (التحولات والربيع العربي) لم تكن هكذا، بل تم تصميمها لتخريب النسيج الاجتماعي والسطو عليه. وهو من مكانه ذلك، اختبر خوف الأبرياء وهم كثر، أولئك الباحثين فقط عن الأمن والسلام.
وهنا يصبح للحديث بين عيد وأسرة بيت المسنين معنى، يتجلى بالشعور بالذنب، من خلال رمزية أحاديث سام وآدم وليو.شخصيات:
ظهرت الشخصيات متواصلة طوال السرد كشخصية عيد ومنار، أو متقطعة، كشخصية علم الدين، أو لمرة واحدة حسب كل عمل وكل مكان حل فيه.إن استعرضنا تلك الشخصيات نجد أن المحورية منها كانت قليلة، لقد هربت واختفت، فقط عيد كان الاستثناء لما ارتبطا به، حتى لكأن عيد كان يعرف حقيقة التخفي تلك لكنه كتمها، حتى يشعر الغريب بالخوف، وكان يتابع أمره مع ابنته في أوروبا. إنها إذاً شخصيات عادية، من داخل المجتمع، مفعول بها، وقع عليها ظلم الفساد والإرهاب، المرتبط بشكل مباشر بعلاقات القوة في العالم.هو يرى نفسه استثناء ما، وهو قريب من البشر، لذلك فقد أحبه الناس كعلم الدين ومنار وعيد بهويته الأوروبية، كما أحبه الباقون بهويته المنتحلة.
شكل وبنية
عِبر وخيال فانتازي وحلم، وواقعية، قدمت آن الصافي روايتها، راوية بشكل متواز عن مرهاة، فتاة الحلم والخيال كرمز للجمال الشرقي، وعن الحياة الواقعية.شغلت مرهاة، الحلم والخيال بما تحمل من دلالات، الفصل الثاني كاملاً، وأجزاء من الفصول: الثالث والرابع والخامس (فتاة الوشاح الفيروزي)، والسابع، والتاسع، والعاشر، والفصول الثلاثة الأخيرة.تلك الثنائية، الواقع والحلم، وظفت تعميق الحالة الإنسانية من جهة، وخلقت تشوقاً، ازداد مع الروح البوليسية خلال فترة التخفي. ولم يكن ذلك ليتم بهذا الابداع والنجاح في السرد والبناء بدون روافع أسلوبية، خاصة رافعة التمكن من تقنية السرد، ورافعة اللغة في الوصف، والسرد، والرافعة البوليسية.
وأخيراً، وعوْداً على بدء، نجحت الرواية، في نقل العين الإنسانية المجردة والموضوعية، لترى الواقع الشرقي من داخله، من منطلق احترام الحضارات، والتضامن الإنساني، والإيمان بالخلاص المشترك للبشر. لقد نحت الرواية منحى التنفير مما آلت له الأوضاع من زعزعة السلام الاجتماعي وشيوع الخوف والقتل والاستلاب والعنف، في سياق كولينالي مستور، قامت بكشفه وإظهاره على الملأ، من خلال شاهد موضوعي منصف من بلاد الغرب نفسه سلم من البرمجة وهندسة العقل والشعور.
----
*آن الصافي، روائية وشاعرة من السودان، تقيم في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، حاصلة على بكالوريوس هندسة كمبيوتر، إعلامية، محاضرة ومدربة في مجال الإدارة والتطوير المهني الاحترافي. وهي من خريجي أكاديمية الشعر في أبو ظبي، الدفعة الخامسة، صدر لها: رواية "فلك الغواية" 2014، ورواية "جميل نادوند" ورواية "توالى".