الامتناع عن الطعام والشراب، أي الصوم، فالحداد، واللطم، وخدمات إعداد الطعام والشراب، والمساج، والرقص، وأخيراً التمثيل لجلب السرور، تلك هي واقع ورموز هندسة المتحكمين الغزاة على اختلاف أساليبهم قديماً وحديثاً وبرمجتهم للمحكومين، الذين يرضون بدفع أثمان حقيقية لتنمية واهمة، تحميهم من الجوع والفقر افتراضاً.إنه تحكم بالمشاعر والقيم والأفكار، وبنمط الحياة، لا يؤدي إلى تحرر تنموي، بل إلى دمج المحكومين في منظومة الحاكم، فيصيرون عبيداً عصريين.الأول مخرج شاب، والثاني كاتب معروف، شاب في الخمسينيات..
ترى ما جمع الشامي بالمغربي غير المصير!
يقع نص الصديق علي الزيدي بين يدَي المخرج الشاب الفلسطيني فراس أبو صباح، فيقع في حبه، وهكذا يأخذ النص طريقه إلى خشبة المسرح؛ بما جمع بينهما كاتباً ومخرجاً، من مشاعر وأفكار، فما توارد من خواطر بين جيلين، حول ما نشهد ونشاهد من مصير ندفع إليه، يعني شيئاً واحداً، أن هناك دوماً مجالاً لنقرر نحن مصيرنا، وأنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، العبارة الإنسانية المقاومة للاستلاب التي انطلقت من المسيح الفلسطيني، والتي سبقتها كلمات ومنحوتات ما بين الرافدين.
تعود الحكاية باختصار إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بل ما قبل ذلك، من مشاريع تبشيرية عصرية، ذات رداء تنموي ديمقراطي، بدأت في بلاد عربية في السبعينيات، ووصلت فلسطين في التسعينيات، ثم ها هي وصلت العراق في موجتها الأخيرة. هي هي نفسها لم تتبدل، نسميها بأسماء ومصطلحات، نتنازع على الشكل فيها والمضمون: اقتراح سياسي اقتصادي، الطعام والشراب، كرمزين للبقاء المشفوع بولاء ما، بتوقع دفع ثمن، فلا يقدم شيء بدون ثمن.
تُرى كيف كان الاقتراح الجمالي في المسرحية؟
بيت فقير، عجوز وحفيده، تدق بابهم سيدة، حاملة معها ما لذّ وطاب، كأكثر العروض سخاء، في ظل واقع بائس، يتهلل له الحفيد، ويقلق منه الجد؛ «فش إشي بدون ثمن»!، وحين يتساءلان، تقدم نفسها (هويتها أهدافها) بأنها طباخة ارستقراطية مبعوثة من (الأسياد).وفي ظل تنازع الحفيد والجد (لعله يرمز للجدل حول مشاريع التنمية)، يحدث ما ليس بالحسبان، يموت كلب الست المدلل، لتناوله سم الفئران، حيث يكون قد دخل البيت من الشباك، وهنا، تنفرج الزاوية، 180 درجة، بوضوح، ليظهر (ربما) نوايا السيدة الحقيقية تجاه الأسرة، وما تمثله من دول ومؤسسات مانحة.
تقايضهم السيدة، مبعوثة (الأسياد)، بأنها لن تقاضيهم إن أذعنوا لها ولبوا مطالبها طيلة سبعة أيام ستقيم فيها معهم.وهنا تتابع المشاهد، في كل مشهد يظهر شكل جديد لهذا الإذعان على جريمة لم يرتكباها؛ فنتأمل العقوبات، من منعهم الطعام والشراب، والإجبار على الصوم، والحداد على الكلب، بل وممارسة طقوس الحزن بدءاً باللطم، وخلال ذلك، سيكون عليهما خدمة إعداد طعامها، وصولاً إلى طلب عمل المساج، وتتوج تلك الأوامر بطلب الترفيه عنها من خلال الرقص، والتمثيل لجلب السرور.وما أن تنتهي تلك الأيام، ويقترب الفرج، والتخلص من احتلالها لبيتهما، حتى تدق بابهما مجدداً، بمبرر موت كلبتها حزناً على الكلب، لتستمر الدائرة، وهي دائرة أدبية وفنية إبداعية، تستفز الجمهور ولا تريحه، لأنها تضعه في مواجهة المصير، وأن ما يحدث سيتكرر بأشكال وأساليب متنوعة.
الرؤية الإخراجية
عبّر المخرج الشاب فراس أو صباح، عن «كوميديا الأيام السبعة» للكاتب العراقي على عبد النبي الزيدي أو «كلب الست»، من خلال تمثيل الكوميديا السوداء، بدءاً من تنازع الجد والحفيد على هذا (الرزق) القادم، مروراً بتمثيل المشاعر والأدوار أفعالاً وأقوالاً إرضاء للسيدة المحتلة للبيت، فهم بما يعانون من جوع وألم وذل، يعبرون بغير ذلك عنه، لضمان الخلاص.يجذب المخرج المشاهد بمشهد حركي صوتي للجد والحفيد، وهما يطاردان فأرا في المطبخ، ثم لتقتحم الغريبة البيت، دون توقع منهما، لدرجة توجسهما من فتح الباب، دلالة الانعزال الذي يعيشانه، ثم لتتوالى الطرود، واحداً تلو الآخر، ما أن يدخلها الحفيد حتى يعيدها الجد، ليتكرر ذلك معمقاً هذه الجدلية والتردد والشك، وصولاً إلى ما يشبه الأمر الواقع، حيث يصبح العرض داخل البيت (الوطن)، ومع حدث موت الكلب مسموماً، تظهر الرؤية الدونية للسيدة وما ترمز لها من خلال اعتلائها قماشة تطل من أعلاها تأمر وتنهى، فاردةً صورة كلبها ليتوسط البيت، مع إشارة الحداد.
تتابع المشاهد، تبعاً للأوامر، حيث تظهر سادية السيدة الطباخة في كل مشهد ذل لهما، بدءاً بالامتناع عن الطعام والتضور جوعاً، فالإجبار على الحداد واللطم، من خلال ملاءة سوداء، تغطي الجسد، فمشهد تقديم الطعام، الذي تتناوله بشراهة أمام جائعين، لتنام تاركتهما في وجع الجوع، وحين تمسكهما يحاولان تناول الطعام، تودعهما سجناً انفرادياً. ويظهر مشهد شعورها بالأريحية لدرجة طلبها من الحفيد عمل مساج لقدميها. لتتمادى في مشهد الرقص، حيث يحاولان، الرقص لإرضائها، لكنها تكتشف أنهما يخفيان سخرية في الفعل، وتتوج التمادي بطلبها منهما التمثيل لجلب السرور، حيث يجد الحفيد ذلك فرصة للتعبير عما يحدث، فيفعلان فعل الابن «هاملت»، وحين تركز في المشاهدة ترى نفسها، وحين يعاني الجد في المشهد التمثيلي من الاختناق، تشعر السيدة بالصدمة والسخط عليهما، كونها المقصودة بالتهديد.
وهما، يتماديان في التذلل تمثيلاً أو إرضاءً لها، لدرجة تحولهما لتابعين لها، ويذهب الإخراج مذهب المبالغة الإبداعية، حين يسيران على أربع. بل لعل ذلك ينبع (ربما) من تصرف نقدي ناقد، حيث يشكل سلوك التذلل المبالغ به، نقداً لمن يقوم بالذل، ما يجعلها في كل مرة تشعر بالضيق من أفعالهما، كونها أفعالاً متكلفة لا تنبع من دواخلهما.وقد لاءم الديكور العرض ببساطة، حيث كان لاحتلال الصورة مساحة كبيرة من العرض أثر في تعميق وتركيز الاهتمام، تلك الصورة الستارة التي أخفت المطبخ وراءها، وكان لتعدد المستويات في الارتفاع، أثر في إبراز النظرة الدونية، ومفاجأة ظهور «الست»، وتم ترك الفضاء لحركة الممثلين، لإثارة حركة الفكر، بين موقفي الجد والابن، أما علب الإعانة فقد تم اختيار شكل علب الهدايا.
تمثيل
ما كان للعرض أن ينجح فعلاً، بدون روافع الطاقم التمثيلي: الفنان القدير خالد المصو، والفنان سليم نبالي الشاب الموهوب، والفنانة الشابة هديل تكروري.لقد درس الطاقم منطلقات الشخصيات، ورسالة المسرحية، فكان الأداء الهزلي الكوميدي، المغرق بمبالغات التذلل، إمعاناً في استفزاز السيدة، حيث أنهما يبدعان في هذا الأمر، وهو تلبية الأوامر وصولاً إلى آخر مرحلة من التذلل، وهو السير على أربع، (بغض النظر عما قد يخلق ذلك من جدل حول رؤية حقوق الحيوان من قبل الإنسان).
على مدار العرض، جذبنا العرض، خصوصاً التمثيل الحركي والصوتي لخالد المصو وسليم نبالي في أخذ المضمون والشكل الى مبالغات بدت هزلية. كان لهذا الثنائي لا شك الفضل في جذب المشاهد حتى النهاية، محدثين فيه، وفينا أثراً عميقاً من خلال تأمل شجن غاضب لردود الفعل الإنسانية، والبحث عن ممكنات التحرر والخلاص. وقد وُفقت الفنانة هديل التكروري في تمثيل شخصية السيدة المستبدة. من المهم أيضاً ملاحظة، وقوف الفنان الشاب سليم نبالي والفنانة هديل التكروري أمام قامة فنية كالفنان خالد المصو.
لقد تسلسلت الأحداث وتتابعت العقوبات بشكل مرن وسلس، ولكن لربما كان هناك فجوة وانتقال سريع، من عرض السيدة وتحولاتها بعد موت كلبها، فقد كان من الممكن دخول الكلب معها لدقائق، ليدخل بعدها الى المطبخ ليلاقي مصيره.وأخيراً، لعل هذا العرض على خشبة مسرح «القصبة» في رام الله، هو أول عرض مسرحي فلسطيني يقدم في ظل جائحة الكورونا، حيث تم اتخاذ إجراءات الحماية، من خلال التباعد في الجلوس وارتداء كمامات.*المسرحية من إنتاج مسرح القصبة، فازت بجائزة أفضل ممثل (سليم نبالي) في مهرجان المسرح الفلسطيني الثاني، وتمت الإشارة لها بتميز في مهرجان قرطاج - الدورة الأخيرة.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
سميح شبيب: صيف آخر
النهضة العربية ولمّ الشمل