في ظل تداخل الأصوات والصراخ، يصعب الحديث لكنه يظل ممكناً، وفي ظل كل ما نعيش نحتاج للبقاء الإبداعي، فلسنا في بداية تنازع، فتاريخنا محصلة لنزاعاتنا أكثر مما هو محصلة لصراعاتنا مع الغزاة.
- ما الذي تريد قوله؟
- قلته!
- وما تقول؟
- أود أن نعيد الاعتبار للثقافة والفكر والجمال والسمو، فهناك ما هو جميل ورائع في بلادنا والعالم.
لن أتعب صاحبي ولا صاحبتي، ولكن أليس لنا كلمات؟ أليس لنا دور؟ أم أنه كتب علينا أن نكيّف كلامنا.
وللكاتب والمثقف والفنان أن يعيد الاعتبار لنفسه أولاً أيضاً:
ولو أن أهل العلم صانوه لصانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
تلك الكلمات للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، في قصيدته التي مطلعها: يقولون لي فيك انقباض وإنما....
هل مر ألف عام!
فماذا سنضيف لما كان؟!
نقرأ عصر الجرجاني، ولو أنه هنا قرأ عصرنا، وعلى الرغم من ازدهار الثقافة في زمنه، إلا أنه لم يشأ أن يكون تابعاً إلا لقلمه.
لنتأمل هذين البيتين فقط:
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما
مرة أخرى، سنشهد تلك الجدلية التب تبدو خالدة للأسف، لكن لا كخلود الروائع!
قلة هم من لا يتفقون مع الروائي المصري نجيب محفوظ في أن الثقافة هي المجال الوحيد الذي يمكن أن تتحقق فيه الوحدة العربية، ذلك أن العرب حين ينتجون ثقافة إنما ينتجونها عربية، وأن تعميم هذه الثقافة كمنتوج على البلاد العربية يصب في الوحدة الفكرية والشعورية للإنسان العربي.
في زمن صعوبة تحقيق الوحدة السياسية، فإن هناك مجالاً لتحقيق ما هو أفضل، ألا وهو الوحدة الثقافية. لقد فشلنا بشكل عام في تحقيق الاستقلال السياسي، حيث لم يكن مسموحاً لنا أن نكون مستقلين أو أحرار، لأن العرب الأحرار يمكن أن يتوحدوا.
ما نحتاجه حتى يصبح كلام نجب محفوظ قابلاً للتطبيق أن تكون دوافع الكاتب في أي بلد عربي دوافع أصيلة تنبع منه، ومن مشروعه العربي، فإذا لم تكن الدوافع الثقافية أصيلة، فإن الثقافة المنتجة ستأخذ صفة القطرية الضيقة.
لكن أين هي الثقافة والمثقفون وجمهورها العربي حتى يتحقق أثرها الوحدوي؟
فحتى تكون الثقافة مجالاً لنحقق فيها الوحدة العربية، نحن بحاجة إلى وجودها الفاعل في الدول العربية، ونعني به وجودها من منظور المشروع العربي الذي ينظر إلى العرب كأمة في العمق ولا يعترف بالحدود الوهمية بين الدول.
نحن بحاجة إلى وجود أركان الثقافة والفنون من أدب وشعر وقصة ورواية ومسرح وسينما وفن تشكيلي وغناء وموسيقى تؤسس على الإبداع، لا أن تكون منابر الثقافة أبواقاً للنظم تستخدمها في الترويج لها ومهاجمة أعدائها.
نحن بحاجة إلى شعر عربي يتجه للفكر والشعور العربيين، لا يكون سطحياً ولا مفرغاً من معانيه بمبرر الشعر المعاصر.
نحن بحاجة إلى قصة عربية تنطق بالمكان والزمان والروح لا تعتمد في انتشارها على إثارة الشهوات بقدر ما تعتمد على إثارة الفكر والروح.
نحن بحاجة إلى مسرح عربي يفصح عن دواخل الإنسان العربي يحاكي أعماقه ولا ينشد السطح، يحاور فكره لا غرائزه وضحكاته، مسرح حقيقي فيه نص حقيقي ومخرج حقيقي وممثلون حقيقيون.
سينما عربية ترتقي بالقصة والرواية هي ما نحتاج إليه، حتى لا يقال سينما إثارة أو عنف.
فن تشكيلي يعبر عما نحتاجه حتى لا نصبح لوحات فناني العرب مجرد خربشة بمبرر الفن المعاصر.. ولا هو فن ولا معاصر.
لكن يا سيدي الروائي الكبير نجيب محفوظ، أنت تدرك أن النظم العربية استولدت ثقافة وفناً ينسجمان مع حالها في تنويم الفكر وإثارة شهوات الجسد حتى لا ينازع الحاكم أحد في حكمه، وقد قلت أنت نفسك: إن الوحدة تتحقق عبر الكتاب لا عبر الساسة.
فالساسة هؤلاء لا يقومون إلا بما يقتنعون، ولذلك فهم يقربون المثقف الذي يواليهم، أما المثقف الحقيقي المنتمي، فليس أمامه إلا أن يعيش مقهوراً!
حين يتحقق وجود هذه الثقافة، فإننا نأمل أن تكون ثقافتنا المرجوة المنتجة وجمهورها، والحال كذلك هي معبرنا جميعاً نحو الوحدة.
يجب أن نعيد الاعتبار للكاتب، وهذا أكد عليه نجيب محفوظ وغيره.
وفي هذا السياق، أحب أن أروي على لسان أ. د. عبد الرحيم زلط أحد أساتذتي الأجلاء في جامعة طنطا، الذي درسنا الأدب وكان عميداً للكلية، حين نصحه أستاذه الدكتور شوقي ضيف قائلاً: لا تحرص يا عبد الرحيم على المناصب، بل احرص على أن تكون باحثاً (أستاذ دكتور) وتفرغ للدراسات والأبحاث والطلبة، لأن ذلك أبقى. وتحدث عن تعدد الآراء بين الأدباء والنقاد، وكان يميز هؤلاء جميعاً محبتهم لبعضهم بعضاً واحترامهم، وأن الاختلاف لم يكن يفسد وداً بينهم.
لتظل الثقافة العربية والمثقفون/ات روافع لهذه الأمة، تجمع ما يفرقه الساسة، وتمنح الأمل بالوحدة والمحبة والتصالح والتوافق إن تفرقنا.
إذا نظر الساسة متراً فإن للمثقف أن ينظر أمتاراً.
لذلك، فإننا إلى ما هو أجمل ننظر، إلى ما يفيدنا ويقوينا، نكتب، وتلك مسؤولية الكلمة.
لم نخلص بعد من نزاعاتنا هنا، فيبدو أنها تطول، بل إن النزاعات على المستويات المختلفة تظهر انطلاقاً ربما من نزاعات نفوسنا.
إذن، فإن الطريق واضح، «من كانت له عين فليبصر»، لندع تلك الشيفرة الجمالية القيمية العروبية الإنسانية تجمعنا، فننتصر لفطرتنا العربية الإنسانية المنفتحة على كل جميل وعقلاني.
المثقفون قيادة فكرية وجمالية، والشعوب هي الأصل وهي الحاضنة لنا، نحن منها وإليها، ووقتها فقط، ستتعدل الطرق والاتجاهات.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
رحمك الله يا جرجاني!
هل مر فعلاً ألف عام!
لعلنا نعود له يوماً لنستقصي حياته، لعل في التراث ما يمكننا أن نقرأ اليوم، باتجاه التغيير.
ستظل الثقافة، بالأدب والفن، أجمل الحقول والكروم التي ننتعش بها وفيها ومنها، حتى لا ننسى أو نتناسى من نحن وأين نسير.
نحن لغتنا، كما قال محمود درويش: أنا لغتي..
فماذا قال سميح القاسم يوماً؟
«غنيتَ للإيمان
لم تُنشِد ولم تَنشُد أميرَ المؤمنين
غنيتَ للأحياء والأمواتِ
من زمنٍ
سئمت الآنَ
غناك الزمنْ»
هل من الضروريّ أن ننشد أمير المؤمنين وننشده؟
انتبه الشاعر التالي لآلام الشاعر السابق، والذي آثر أن ينشد الوطن الأبقى منا، فلم يعجب ذلك ثقافة الولاء، لعلها اعتبرت أن من ليس معها هو ضدها، كونها لم ترد جعل الخلاص الفردي والفئوي وطنياً وقومياً
قبل 36 عاماً ضمّن الشاعر سميح القاسم قصيدته التي رثا فيها الشاعر معين بسيسو، هموم الشاعر وهموم شعبه، كأن شيئاً لم يتغير في بلادنا، منها الهموم التي وردت في قوله:
«وسيوف أسيادِ الحمى حول الخلافةِ......»، لإدراكه العبقري لمشاكل الحكم، والنظم، واجتهادات الساسة والقيادات باتجاه التحرر.
لكنه، لم يسأم طويلاً، بل منحنا الأمل:«ما زال ملءَ الشمس والإنسان والتاريخ شعبُكْ»
وكيف نسأم؟ وهذا التراب وهذا الشجر وتلك السماء العالية البديعة، وهؤلاء الأطفال بكل بابتساماتهم العريضة من المحيط إلى الخليج؟
وأترك الجرجاني يصافح سميح القاسم وشوقي ضيف ومحمود درويش.. ونجيب محفوظ .. فلربما رسالة غفران تكتب من جديد.
لعل الساسة يبقون على وشائج الثقافة، بل يعودون للتصالح من خلالها، فلا يشجعون التشظي الثقافي، فكفانا تشظياً.