مرة أخرى، تزداد توقعاتي من الشعر الشعبي، بما تنوع من وصف، عامي ونبطي، وغيرهما، بافتراض مسبق، دلت عليه ظاهر الأيام وباطنها، في وصف حياة الإنسان بصدق والانتصار لقضاياه.سنتحدث اليوم عن القصيد، وهو الأقرب للشعر العربي النبطي، الذي نشأ في فضاء الجزيرة العربية، قبل الشعر العمودي، وسار معه، وبقيا معا حتى الآن؛ فحسب نظرية الشعر العمودي، أن منشأه كان بسبب تمضية الوقت الطويل في السفر عبر الصحراء، وهو ما استدعى غناء العربي وترديده لأوزان معينة، لزم اللحن من ناحية، ولزم التذكر من ناحية أخرى.
ظهر الشعر العمودي حوالي من قرن ونصف الى قرنين قبل الإسلام، بما احتوى من بحور الشعر التي اكتشفها الخليل بن احمد الفراهيدي، بالصدفة وهو يمر في السوق، حيث انتبه لإيقاعات صناع الأواني.وبالتفكير بالنظرية، فمن الصعب أن يأتي الشعراء بقصائدهم التي تبلورت في الشكل المعروف، فلا بد إذن أن يكونوا قد مروا بمرحلة الشعر العامي. ولكن من المهم جدا هنا الانتباه الى ان الشعر العامي بمختلف قوالبه اللحنية، فإن له نسقا، وأوزانا أيضا، لا تحتمل الاختلاف معها، لان اللحن سينحرف.
إذاً، وبالتركيز بنظرية الشعر العربي، فلا بد أن يكون الشعر (العامي-النبطي)، قد كان قبل عدة قرون، وهذا يعني ربما أننا إزاء إعادة البحث في النظرية، خصوصا ان ذلك قد حدث بالنسبة للغات الأوروبية التي أصلا انقلبت عن لهجات. وسيصبح الحديث عن تطورات الشعر العربي، من موشحات، واشعار عامية ظهرت في القرون التالية، ضمن سياق إعادة الاعتبار للأصل، لا الهبوط اللغوي، كما اعتاد نقاد الأدب القدامى والجدد وصفه بل ونقده والهجوم عليه بل واتهامه بمعاداة اللغة والهوية والدين بل وعدم الاعتراف الأدبي به.
الذي حدث في أكثر من فترة تاريخية، هو أن الغناء هو الذي كان دافعا لتلك الأوزان واللغة السهلة، ولقد عدّ أصلاً أن الشعر العربي شعر غنائي، فلم الارتباك وردود الفعل النزقة!ويبدو أن مؤسسي» شاعر المليون» قد فطنوا إلى ما نحن بإزائه، حين رأوا ان الاحتفاء بهذا الشعر «يساهم في إعادة الاعتبار للشعر وفنون إلقائه بالارتكاز على قاعدة شعبية واسعة من حبّ الناس له، وبرهنت المشاركات من شعراء صغار في السن على نجاح البرنامج في تشجيع المواهب الشابة، وعلى أن الشعر لا يزال مرغوباً ومنتشراً كوسيلة للتعبير عند مختلف فئات المجتمع. في الوقت الذي أتاح هذا البرنامج فرصة التعرف على شعراء متميزين، إضافة إلى ترسيخ معرفة الأوزان والقوافي والمدارس الشعرية المختلفة. لتصل إلى الملايين في الدول العربية، وجميع الناطقين بلغة الضاد في أنحاء العالم، حتى أطلقت هذه المسابقات بشهادة الجميع حركة شعرية أدبية مهمة في المشهد الثقافي العربي».
وهذا الوعي النظري والتطبيقي على مدار عقدين تقريبا، له علاقة بقضايا الإنسان العربي التي خير ما تتجلى فيه هو الشعر النبطي، وهذا ما سيصلنا بالغناء.نعود للقصيد، والذي نجد أن له تعريفا بأنه ما زاد عن سبعة أبيات، وقد قيل قصيد وقصيدة. أما عن القصيد، فقد تذكرت أمرين، وهو أن القصص البدوية، توصف الشعر بالقصيد، والذي لا يبعد معناه، عن أصل الفعل الثلاثي قصد، أي أراد، لكن القصيدة صارت مضمونا وشكلا جماليا بسبب اللحن.
الأمر الثاني، ما ورد في شعر محمود درويش، في قصيدته «من روميات أبي فراس الحمداني»، حين قرأنا الكلمة:
«خذوني إلى لغتي معكم! قلت:
ما ينفع الناس يمكث في كلمات القصيد
وأما الطبول فتطفو على جلدها زبدا»
كلمات القصيد، هكذا أرادها العربي درويش، بإعادة الاعتبار الى اللغة وتاريخها، وأهمية أشكالها الجمالية جميعها، كونها وعاء الثقافة العربية الرئيس.عودا على بدء، يمثل الاحتفاء بالشعر النبطي (القصيد) إحياء للتراث، وتوظيف ذلك التراث من أجل الآن وغدا، في وصف حياة الإنسان العربي المعاصر، بصدق والانتصار لقضاياه الاجتماعية والوطنية والقومية كقضايا إنسانية مشروعة.في الشعر النبطي العربي الذي هو المحور الأساس «لشاعر المليون» الذي اختتم موسمه التاسع في هذا الربيع، والذي سطت عليه «كورونا»، إعلاميا، ظهرت عبارة «حامل البيرق، والتي تعني أن الفائز في مسابقة «شاعر المليون، يستلم راية الشعر العربي النبطي، كأمير، تكريما له، ليقوم برد وتسليم الأمانة لشاعر آخر قادم.
وجميل أن يوصف الشاعر المجدّ بحامل البيرق، والذي يعني الراية الكبيرة، والتي نراها راية الجمهور العربي، من المحيط الى الخليج، حيث أن الأمل معقود على المواسم القادمة أن تعمق هذا الاتجاه الإنساني الصادق والحقيقي والشعبي (لا الشعبوي بالطبع)، وهو ما كان محدودا في الشعر العربي الرسمي (الفصيح) العمودي والحر وقصيدة النثر.ويكفي أن ترجع للشعر العربي، الحديث، لتجد مثلا حضور شاعر مثل بيرم التونسي او سيد حجاب، هو أهم شعبيا من الكثير من الأسماء، حتى أن أهل الفن قد مالوا ونهلوا من قصائدهم.ونحن نتأمل رحلة «شاعر المليون»، جميل أن نربط هذا النشاط السنوي بتاريخ الشعر العربي، ومستقبله أيضا، لقد هدف شاعر المليون، الذي رعاه أهل الحكم محبو التراث، الى المساهمة «في تطوّر الذائقة الأدبية والارتقاء بالوعي الثقافي والإنساني في العالم العربي، وخلق فضاءات ومنابر تعبيرية للشباب، بعيداً عن الوقوع في فخّ المفاهيم المُتطرّفة».
اكتمل البدر إذاً، جماليا من عالم الشعر وفكرا ومضمونا ومشاعر من عالم الإنسان.
ثمة ملاحظات سريعة إزاء شاعر المليون:
كان البرنامج فرصة كبيرة للشعراء الشباب فعلا؛ فعدد الشعراء الذين منحتهم أبو ظبي فرصة الظهور الإعلامي الواسع للمرّة الأولى، عبر اختيارهم في قائمة الـ 100 الأولية في برنامج شاعر المليون تجاوز أكثر من 980 شاعراً من أصل أكثر من 14 ألف شاعر قابلتهم لجنة التحكيم بشكل مباشر في جولاتها التمهيدية.أصبح هناك عنوان لهذا الشعر، فصار برنامج شاعر المليون الذي يعقد كل عامين، أشهر برنامج عربي على الإطلاق من جهة اهتمامه بالشعر النبطي، لتُؤكِّد الإمارات العربية المتحدة ممثلة بأبوظبي أصالتها في الاحتفاء بالثقافة، والمحافظة على الموروث الثقافي وصونه ونقله للأجيال المتعاقبة، وما يعنيه هذا النقل من معان وتجليات عروبية، فماذا يعني مشاركة آلاف الشعراء العرب في هذه المسابقة الجمالية والإنسانية غير ترسيخ القيم العربية الأصيلة، في الرحلة نحو مستقبل مشرق.
لقد ساهم إذاً «شاعر المليون» في خلق تنافسية جمالية بين الشباب العربي، ما أسهم فعلا في خلق لغة الاحترام المتبادل بين الشعوب، وفي نقل القيم الإنسانية من جيل لآخر، خصوصاً في ظل وجود تجاوزات تحدث هنا وهناك.
ومن الدلالات، أنه ما كان لشاعر المليون أن يرتقي هذا المرتقى، بدون روافعه، بدءا بالعم السخي في تمويل البرنامج العربي، بالإضافة للمنح المالية المقدمة للشعراء الفائزين، حيث يحظى الفائز بالمركز الأول بلقب «شاعر المليون» و «بيرق الشعر» بجائزة مادية بقيمة 5 ملايين درهم إماراتي، فيما يحصل صاحب المركز الثاني على 4 ملايين درهم، والثالث على 3 ملايين درهم، الرابع على مليوني درهم، والخامس على مليون درهم إماراتي، والسادس 600 ألف درهم.
ومن روافع شاعر المليون، الإطلالة المميزة لمقدمَي البرنامج، الإعلاميَّين أسمهان النقبي وحسين العامري، في حبهما لهذا الشعر، حيث يقومان عادة بترديد الشعر النبطي، كما فعل مؤخرا حين رددا أبياتاً شعرية من أوبريت «أرض السلام»، تعكس القيم الأصيلة وتحاكي المواقف الوطنية والإنسانية التي تقفها دولة الإمارات وقيادتها على المستويين المحلي والعالمي في مواجهة التحدي الخطير الذي يفرضه انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد على البشرية جمعاء، ومنها:
« من عصور سولفت عنها السنين لين عصر سولفن الأمجاد عنه
بالرجال المخلصين الشامخين طوعوا الصعب وغدت بوظبي جنة»
ويتكامل مع هذه الجهد، رافعة الأدبيات والتوعية والتعليم، من خلال ما تُقدِّمه أكاديمية الشعر من البرامج التي تخدم الساحة الأدبية والثقافية، وتحافظ على التراث المعنوي، وقد تزامن تأسيس الأكاديمية مع برنامجي شاعر المليون وأمير الشعراء، حيث تقوم بالإشراف عليهما، وقد أصدرت الأكاديمية أكثر من 200 إصدار متخصص في الشعر «النبطي والفصيح»، تنوعت بين الأعمال التوثيقية والدراسات النقدية والبحوث والتحليل، إلى جانب مجلة شاعر المليون الشهرية التي تهتم بالشعر والثقافة والأدب.
«كما تنظم الأكاديمية في كل عام الموسم الدراسي الأكاديمي، والذي يأتي بهدف تطوير مستوى المواهب الشعرية، وتأهيل مَن لديهم موهبة البحث في الأدب الشعبي كي يكونوا على المستوى المطلوب، وخلال شهر شباط المنصرم انطلق الموسم الدراسي الـ 12 والذي يقدم للطلبة عدداً من المحاضرات حول التسلسل التاريخي للشعر العربي الفصيح بدءاً من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، وبدايات الشعر الفصيح في الإمارات بدءاً من القرن السابع عشر الميلادي إلى يومنا هذا، بالإضافة إلى الأوزان وعلم العروض النبطي، والبناء الفني للقصيدة النبطية، ومدخل إلى الثقافة الشعبية ومفرداتها، وجمع الشعر النبطي وتوثيقه، والإعلام والشعر النبطي، وفن الإلقاء الشعري.
في هذا السياق، أصدرت أكاديمية الشعر «مختصر أوزان الشعر النبطي» لمؤلفه د. غسان الحسن وذلك تسهيلاً للشعراء والمهتمين الراغبين في معرفة أوزان الشعر النبطي دون الدخول في التفصيلات العلمية المتعلقة بعروض الشعر النبطي وتفعيلاته.أما دورية شاعر المليون، فهي المجلة التي تواكب هذا الحدث وتعبر عنه، حيث صدر قبل أيام العدد 160.وأخيراً، وبعد الاطلاع على عدة أمور في برنامج شاعر المليون، لربما نحن بحاجة للتجديد في مجالات المشاركة، كأن نشهد مشاركة الشاعرات العربيات، وذلك لإدخال دماء شابة جديدة الى جانب الخبرات الموجودة.