بقلم : تحسين يقين
كل بما يرى، وكل بما وهب من رؤيا ورؤية.أصفر أو فسفوري، موجود، وغير موجود، مفارقة إنسانية وبصرية، نراه ولا نراه، لكن قد نراه، في المدن والبلدات، يومياً. إنها ليست «فزورة» أو أحجية !لعلي لا أطيل الحديث في التنظير حول أدب الطفل والتربية، بل أجد نفسي أكثر ميلاً لاختيارات أدبية كي نقدمها كأمثلة إبداعية فعلاً.معظم شعوبنا العربية تحت سن الـ 18عاماً، فماذا أعددنا من تربية وفن وأدب عميق لهم/ن؟في العمل الأدبي، الذي بين يدينا، ثمة أسلوب عميق، يتعامل مع الناشئة من دواخلهم، من أعماقهم الإنسانية، بعيداً عن الوعظ والإرشاد، لذلك تصبح الكتابة للأطفال والرسومات، استثماراً عظيماً، في إعداد الأجيال الجديدة، لضمان السلوك الإنساني في المحبة والتضامن، والالتزام النابع من النفس.
سحر المعنى وعمقه الإنساني لأبعد مدى لا يتجزأ عن تلك الرسومات المصاحبة، والتي يمكن أن تقود عيني القارئ صغيراً وكبيراً، كسيناريو بصري، هو ما نراه متجلياً في هذا العمل الإبداعي.كل ذلك يسكن طويلاً في وعي الطفل وفي اللاوعي، حيث يمكث محدثاً قراءات متعددة، في رؤية «الرجل الأصفر»، والوجود أيضاً.يستمتع الطفل بالقراءة لنص سلس واضح، للكاتبة هدى الشوا، وبرسومات غير نمطية للفنان التشكيلي البريطاني لويس شابمان تحاكي ذائقته غير التقليدية، متشوقاً للأحداث، فإذا به يدخل المشهد من داخله، حيث يجد نفسه متضامناً معه. وقد ساهم ذكاء النص في إدخال القارئ لطقس حار، بجلب المزيد من المعايشة وبالتالي الشعور الإنساني العميق، كسرته بإيراد برودة المثلجات، تخفيفاً على الطفل. من جهة أخرى تضافرت الرسومات بألوانها، في خلق البيئة النهارية لمدينة الكويت صيفاً، حيث تتفاعل حواس الطفل من البصر واللمس والذوق (والسمع والشم بمدى أقل) في نقل القارئ مشهدياً من الكلمات إلى الشارع، حيث يعمل عامل النظافة في صمت وتحمّل وأمل.
كل ذلك وأكثر، يتم ببساطة العمق، وعمق البساطة من دون تكلف لغوي، أو وعظي مباشر، بما ينسجم فعلاً مع عالم الأدب، خصوصاً أدب الطفل.«الرجل الأصفر»، العنوان يشد الطفل لهذا الإنسان الموصوف لوناً، ليتساءل هذا الطفل عن وجود بشر بلون معين، فيقبل على الرؤية، والقراءة متشوقاً لمعرفة من هو هذا الرجل الأصفر.يصف العامل نفسه، من خلال مونولوج، شاكياً من كبر ردائه، وصغر حذائه، مخففاً على نفسه بوجود صديقيه: المقشة والعربة، حيث ينطلق معهما في سفر إلى مكان بعيد، حيث يجوب الشوارع لتنظيفها مما علق فيها من نفايات. ثم ليستريح ظهراً، واللقاء مع «زملائه الصفر تحت ظل شجرة سنط»، فاستئناف العمل في ظل حرارة لاهبة، حيث «يترنح ضعفاً»، فالجوع والعطش عصراً.
في تفاصيل المشاهد، يكتشف الطفل تفاصل النفايات: «علبة صفح صدئة، علبة تونا، حذاء بلاستيكي..»، فإذا بالطفل ينشأ على عدم رمي النفايات إلا في أماكنها، ربما تضامناً مع رجل النظافة وتخفيفاً عنه. أما في لوحة الاستراحة، فيجد العامل وقتاً لتأمل جمال الطبيعة ممثلة بـ «النوارس تحلّق في السماء»، وجمال الطفولة «أرى طائرة من ورق تعلو السماء». وفي لوحة اللقاء مع «الزملاء الصفر»، يتعرّف الطفل على مجتمع هؤلاء المنسيين، ليجد أن لهم هم أيضاً عالماً عادياً مثل الآخرين «نتجاذب أطراف الحديث، نتبادل حبات تمر، صوراً، ورسائل بريد، نتكلم عن الطعام والثريد». في اللوحة الجديدة، يكتشف نفايات جديدة، وصولاً لسعادة النهاية، بإطفاء العطش بعلبة شراب مثلجة.
وخلال كل تلك المعاناة، يبوح العامل بالمفارقة الكبرى: «على الرغم من لون بذلتي المشعة الصفراء، أبدو وكأنني غائب عن الأبصار».تتعانق الأمكنة التي يتنقل فيها «الرجل الأصفر»، مع الأزمنة من الصباح حتى العصر، ذاهباً في زمن مطلق وجودي آخر، لمحناه من خلال وصفه: «حذاء بلاستيكياً كان يوماً ما أزرق اللون».ثمة نزوع إنساني تجاه هذه الفئة غير المرئية، بإظهار تلك التفاصيل من منظور عامل النظافة نفسه، ومن خلال شعوره بعدم وجوده في الفضاء الإنساني، وفقط فإنه يظهر «للصفر الآخرين» الذي يعايشونه.
ورغم ذلك، فكأنه راض بما يصنع، لا لتمضية النهار فقط للاستراحة، بل ثمة أمل ما براحة قادمة، وأمل بأن يتم إنصافه، فالإنسان-العامل الأكثر تميزاً بصرياً ليلاً ونهاراً والذي لا يرى، سيصير مرئياً يوماً ما.مرة أخرى نحن إزاء قصة أطفال عربية، بمستوى عالمي!تعانق فني أدبي وفني:إنه فعلاً تعانق إبداعي بين النص والرسومات، كأجمل ما يكون من التمازج العضوي والموضوعي، حيث تنوع شكل الرجل الأصفر، ما بين الوقوف بثقة وجر العربة صباحاً، وما بين جلوسه على الأرض للاستراحة، فوقوفه ثانية وثالثة، فجلوسه مع العمال، فوقوفه ثم جلوسه، ثم حركته وهو يشير وينادي على بائع المثلجات، دون أن نغفل عن رسمة نصفه الأعلى كبورتريه بغطاء الوجه المحمر، الذي يحاكي حرارة الجو وحرارة تعبه الجسدي والنفسي الشعوري. إنها دراما حركية ولونية.
وقد تم رسمه من الخلف، والجانب، مموه الشكل باللون الأصفر لكل ملابسه، ما عدا غطاء الرأس الذي يلف به وجهه، فلا يُرى منه شيء، الذي اختار له اللون البرتقالي عدا آخر رسمة، حيث اختفى اللون الحار، لربما انسجاماً مع تخفيف حره من خلال علبة شراب مثلجة تطفئ عطشه. وهي اللوحة التي أنهت الكاتبة قصتها بها.وقد تعددت ألوان خلفيات الرسومات بدءاً من الأخضر إلى الرمادي، فالأخضر الفاتح المصفر، فالرمادي ثانية، ثم الأخضر ثالثة، فالبني البرتقالي ثم الأخضر رابعة، فالرمادي ثالثة، فالأزرق المخفف أخيراً. وقد ظننت أن مردّ اللون يعود لفترات العمل، أي لنور وبصر المكان نهاراً، لكن هذا التتابع غير المنطقي بين الرمادي والأخضر بشكل خاص، أعادني للقراءة مرة أخرى؛ حيث رأينا أن لون خلفية اللوحات - الرسومات مرده الحالة الشعورية، للرجل الأصفر عامل النظافة، الذي يمر بتنوع حالاته النفسية، ما بين الشعور بالوحدة والتعب، وما بين الاستراحة ولقاء العمال الآخرين، بالإضافة لبداية النهار حيث يكون قوياً، وآخره باقتراب نهاية العمل التي جاءت بأزرق خفيف.
وأخيراً إن تعميم ونشر، وإعادة نشر هكذا أعمال أدبية وفنية، سيساهم بالتأكيد في تحصين النفس الإنسانية من جهة، كذلك يساهم في التربية الوجدانية المعتمدة على التعلّم الذاتي، باتجاه خلق أطفال وفتيان أكثر تأملاً وتفكيراً، وهو ما سينعكس عميقاً في عملية التعليم، بأهداف نبيلة. ولا نخفي طموحنا أبداً أن نرى لهذا الأسلوب الإبداعي تجلياً في عالم التربية والتعليم، نصوصاً للطلبة، وأساليب تعليم، لعل الأدب يكون رافعة للتعليم أيضاً.* هدى الشوا: قاصة للأطفال والفتيان، صدر لها 9 قصص، نالت عنها عدة جوائز، متنوعة مصادر المعرفة، والإبداع. الرسومات للفنان التشكيلي البريطاني لويس شابمان، الذي أقام في الكويت، التقط بريشته مشاهد من الحياة المعاصرة والبيئة المحلية. صدرت القصة عن دار نوفابلس 2013.