ما زلت حتى اللحظة، وغداً، وبعده، أؤمن بأن هناك دوماً مجالاً للحق والخير والجمال، وأنه يمكن حل المشاكل، ما بين الإنسان ومحيطه، وما بين أبحر البشر، ودولهم؛ ولا أظن مثلاً أن "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" هذه المقولة التي أطلقها الشاعر الإنجليزي "روديارد كبلنغ" في نهاية القرن التاسع عشر، بدافع ومبررات رآها لأسباب ربما موضوعية وذاتية، فعلى الرغم من ذلك، هناك مجال، بل من الضرورة الإنسانية أن يقتربا، وليس الشرط طبعاً هو التطابق.
نعم يمكن حل النزاعات والصراعات، بين البشر، حيث كلنا نتفهم معنى المصالح، لكن لو تأملنا سنتعمق ونؤمن بأن هناك مصلحة إنسانية عليا، من المحبة أن نعليها.
والنزاع المشكلة، تعني الوجود، بل إنها في داخل جسد الإنسان ونفسه، وروحه، ولكن من غير الطبيعي والمتقبل حلها بإيذاء، لأن مسلسل الفعل ورد الفعل يطول (ع الفاضي).
طيب!
أفكر في دور الفن والأدب والإعلام والتعليم في تعميق المحبة والحنان والتضامن، "وادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم..". فصلت (آية 34).
أكمل!
في الأديان كمقدسات اتفق عليها البشر، وفي الأخلاق بل والميثولوجيا، تحفل النصوص بما يؤكد على قيمة التسامح.
.........؟
إنه يا صاح يبدأ في مقتبل العمر..
وهكذا رحت أسرد لصاحبي، ما كان من رحلة مدرسية، لنا عندما كنا أطفالاً، فهل كنا أطفالاً فعلاً؟ وهل نتذكر طفولتنا!
في يوم من الأيام.. من سبعينيات القرن الماضي، في نهار مبتسم مشرق دافئ من أيام الربيع، تجمع الأطفال مبكرين أمام المدرسة، نافضين عن أعينهم النعاس، تختلف وجوههم عن الصباحات الأخرى، حيث صار النعاس والعبوس اليومي يقظة وفرحاً..
فرح رامي وهو يجلس في كرسي الحافلة..
- ما أجمل الرحلات!
ومن القدس إلى أريحا مضت الحافلة. ولم يمض سوى ربع ساعة حتى بدأت الحافلة بالهبوط التدريجي نحو الغور.. على الجانبين مشهد التلال والرعاة ومضارب البدو.
على الرغم من فرح رامي إلا أنه كان مهموماً..
المعلم: نحن الآن متجهون إلى أريحا، مدينة النخيل، المتميزة بدفئها، من أرضها، انبثق دفء الحضارة والتمدن، لتهدي العالم فكرة المدنية والاستقرار والإبداع الإنساني الخلاّق. لقد دلت الحفريات التي جرت في بداية القرن ومنتصفه على أن أريحا القديمة هي من أقدم المدن المسورة (لها سور) في العالم، وتاريخها يعود إلى 10.000 عام. ففي تل أريحا المسمى تل السلطان نسبة إلى عين السلطان، يستطيع الزائر أن يتعرف على أول حياة مدنية عرفها التاريخ، فالمدينة القديمة كانت محاطة بسور، وفيها برج، ودلائل تشير إلى أماكن المهن والطبقات الاجتماعية، وهي مرحلة حضارية تمثل بداية الاستيطان البشري، التخلي عن حياة الرعي، إضافة إلى جوانب أخرى تخص حياة المدينة.
تحدث المعلم عن مسار الرحلة
- أرجو ألا يجعلها المعلم حصة مدرسية!
ضحك الزملاء..
وضحك علي الذي كان يجلس في الجهة المقابلة، لكن سرعان ما بدا عليه الهمّ.
علي في نفسه:
كان يوم أمس ثقيلاً، ثلاثة امتحانات..وخلافي مع رامي..
هو الذي أخطأ!
رامي لنفسه:
ليتني لست على خلاف مع أحد من زملائي..!
على مشارف أريحا، تذكر علي تفاصيل الخلاف..
لا بدّ أن رامي غاضب من كلامي معه..
رامي في نفسه: كان رد فعلي سريعاً..
علي لنفسه:
لم يكن ضرورياً أن أتسرّع..
لقد أخطأت!
لكنه أخطأ أيضاً..
ظهراً، اقتربت الحافلة من قصر هشام:
لاحظ الطلبة أن المكان خرب، لا توجد إلا هذه الأعمدة..!
المعلم: تسمى هذه المنطقة التي يوجد فيها قصر هشام بن عبد الملك خربة المفجر.. وقد بنى الخليفة الأموي هشام هذا القصر عام 733 للاستمتاع بجو الغور شتاء، وممارسة هواية الصيد وركوب الخيل. وقد تكون القصر من قاعات استقبال وحمامات ومساجد.. لكن للأسف تعرّض القصر لزلزال قوي لم يبق منه سوى القليل من الآثار..
طالب: ترى أين لوحة الفسيفساء الكبيرة التي درسنا عنها؟
المعلم: سندخل الآن لمشاهدتها..
حين أطل الطلبة رأوا لوحة الفسيفساء أسفل القاعة.
المعلم: تعد لوحة أرضية قاعة الاستقبال هذه من أجمل لوحات الفسيفساء في العالم وربما من أكبرها..
نظر رامي إلى من يقف بجانبه فكان علي... تبادلا النظرات بسرعة، لكن لم يتحدثا..
طالب: إذن هذه شجرة الحياة..!
تأمل الطلبة في اللوحة من فوق، على يمين الشجرة أسد ينقض على غزال، وعلى يسارها غزالان يقضمان ورق الشجر..
طالب آخر: يسمونها لوحة الخير والشرّ!
تتركز عيون رامي وعلي على الغزلان والأسد..
علي في نفسه: شمال الشجرة يرمز إلى الخير!
- ما أجمل الخير!
رامي في نفسه: يمين الشجرة يدل على الشرّ!
لا أحب الشرّ..
المعلم: أريحا أكبر واحة في العالم، إن المدينة والحضارة في كل عصورها مدينة للمدينة القديمة منذ آلاف السنين؛ فالمدينة لا تعني إلا مفاهيم الاستقرار والإبداع والسلام والفن والمحبة.
التقت عيون علي ورامي..
فتبادلا الابتسامة..
وتصافحا..
أكمل يا صاحبي!
طريق الخير والحق والجمال والسلام معروف، أكان بين الإنسان وأقرب الناس إليه، أو بين الحلفاء. وأنت ما ترى؟
لا بد من العمل، بأن توصل المجتمعات الإنسانية للحكم رجالاً ونساء، يؤمنون فعلاً بالسلام وثماره، من هنا إلى آخر الدنيا.
وهكذا تركت صاحبي يتأمل ويتذكر، فهو أيضاً له رحلات مدرسية، ورحلات في الحياة، وأنا وأنتم.
تلك هي الروح الحضارية لفلسطين..
جميل أن نرتقي لها جميعاً في العالم..
ضروري أن يفعلها المختلفون هنا، بدلاً من الحديث الذي طال...كثيراً.