- ماذا أردت بهذا مثلاً؟
- ماذا أراد صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ بهذا مثلاً عام 1959!؟
للعمل الأدبي والفني حاضر، وماض، ومستقبل، أي له تاريخ..
ونحن، عبر مراحل نمونا، ووعينا، لنا تاريخ..
والمهم هنا: أن قراءتنا ومشاهدتنا أيضا لها تاريخ؛ فتلقينا وتفكيرنا وتحليلنا وتذوقنا للعمل الأدبي والفني، يتغير، ويتطور تبعاً لذلك. فما نراه (الرؤية القلبية والفكرية) فيما بعد، ستكون أكثر عمقاً من مجرد الرؤية البصرية.
شاهدت الفيلم أول مرة في الثمانينات، وكنت ابن 16 عاماً، شدني فيه، من كان يغازل هند رستم في الطريق، حيث يتبعها حتى إلى المصعد، ثم كيف توقف في الهواء، لا هو بالصاعد ولا الهابط، حيث يكون تشوق الفتى الذي كنته هو، إصلاح المصعد وإنقاذ الجميع، خصوصاً تلك المرأة التي صارت فعلاً في حالة ولادة.
ثم شاهدته في فترة الدراسة بمصر (88-92)، أكثر من مرة، حيث اعتادت القناة الأولى للتلفزيون المصري إعادة بث الأفلام، فكأنني قد شاهدته عدة مرات، ربما 4 على الأقل، بواقع مرة سنوياً.
أيضاً، من فتى لشاب، ربما تغير القليل، الغزليات، وانتظار الفرج، التضامن مع الأم الحامل، وأظن أن هناك شخصاً أغمي عليه، وكيف وقف الزمن، فلم يصل كل واحد منهم لغرضه إن كان مشروعاً ونبيلاً او غير ذلك. كنا نتابع ذلك، ونرى ما يحصل من مواقف في المصعد، في الفيلم قليل الأحداث، بل الذي توقفت به الأحداث.
ثم استمرت مشاهدتي، لا أدري ما الذي كان دوماً يشدني للفيلم، دخلنا الثلاثينيات فالأربعينات فابيضت مفارقنا، فبداية الخمسين، وفي كل حين، صرت من زمن أرى الفيلم رمزياً، وواقعياً في الوقت نفسه، وليس كما قيل عنه أنه فيلم واقعي، خصوصاً أن مخرجه هو صلاح ابو سيف هو أبو الواقعية في السينما المصرية، والذي صار توأماً روحياً ربما وسياسياً وفنياً مع نجيب محفوظ، الذي تبلورت الرواية على يديه، خصوصاً الواقعية أيضاً.
ففي كل فترة سياسية ما، في ظل تحولات متنوعة، في بلدي فلسطين والعالم العربي والعالم، كنت أتذكر الفيلم، خصوصاً مجموعة البشر المتنوعين المحجوزين جبراً داخل المصعد المتوقف.
والذي يزيد التفكير، هو اسم الفيلم نفسه: «بين السماء والأرض»، الذي بدا ويبدو كاسم كلاسيكي لعمل فني غير تقليدي فعلاً، لأنه فيلم نقدي وناقد من الدرجة الأولى.
إنها حالة ولادة لا تنتهي من الأفكار، في ظل تكرار مشاهدتنا للروائع الخالدة فعلاً، كمثل هذا الفيلم الذي بين أيدينا، والبالغ من العمر الآن في عام 2020: 61 عاماً!
61 عاماً وما زال في كامل الطزاجة والألق والإبداع، رغم أن الفيلم بالأبيض والأسود، وهو مليء بالألوان الإنسانية، بكل ما تتيحه الواقعية.
ما أن تجري بعض الأحداث، حتى تقود الشخصيات ظروفهم ونواياهم في تحقيق أهدافهم، داخل عمارة في القاهرة، التي ما أن حشروا أنفسهم متنافسين ليكون لكل منه مكان بمصعدها، وارتفع قليلاً حتى تعطل، وهم لا يعرفون بعضهم بعضاً، والجامع بينهم هو أنهم مسرعون لتحقيق مصالحهم وأهدافهم المستعجلة، بدءاً من الخادم الذي يحمل الطعام المشوي لمن يعمل لديه، مروراً بامرأة حامل قدمت لعيادة طبيب للمراجعة، على وشك الولادة، وزعيم عصابة يود تنفيذ عملية سطو، وصولاً الى ممثلة تود تمثيل مشهد سينمائي، بينهم آخرون: مجنون من وجهة نظر زوجته، ولص، ورجل هادئ محترم، وآخر مشاغب، وثالث غريب التصرفات ورجل مريض.
ولم يكن ليدور بأذهانهم (ولا أذهان المشاهدين) أنهم سيقضون في المصعد وقتاً؛ ففي البدء، يكونون كما هم، بشخصياتهم بما فيها من خير وشر، لكن مع الخوف تبدأ نفوسهم بالتطهّر الكلاسيكي، خاصة مع محدودية الأمل بخروجهم سالمين/ات، فراحوا يتعظون، ويبدؤون برؤية الحياة بصورة إيجابية.
المجموعة عينة من المجتمع المصري آخر الخمسينيات، عبّر عنهم كاتب روائي، ليلتقط ذلك مخرج مبدع، تعامل في معظم زمن الفيلم مع مساحة ضيقة هي مساحة المصعد الداخلية، وعبر وسط ذلك الحيّز، عما يختلج داخل النفوس، كأننا في مسرحية شكسبيرية؛ فهذه طموحات وأحلام النجمة واللص، والزوجة الخائنة، والزوج المسن عاشق النساء؛ لينشأ بداخلهم الأمل وحب الحياة، وذلك بسبب اقترابهم من الموت، خاصة بوجود الرجل المريض والمرأة التي يأتيها مخاض الولادة، فيصيرون كأنهم يراجعون أفعالهم، وأنهم لم يقدروا الحياة حق تقدير.
وفي ظل تعلقهم بالحياة، نجد شخصاً آخر فوق العمارة قد زهد بهذه الحياة، ويود الانتحار، بحيث نغوص معاً في مفارقة مدهشة تتعلق بالموت والحياة. في ظل هذا الحيّز الصغير، تنفتح عقولهم وصدورهم، ليروا أنفسهم على حقيقتها، فمنهم من يعترف، ومنهم من يتوب، ويظهر الندم، ليبدع الفيلم بربط مصائر الجميع، تلك التي نسجها نجيب محفوظ بإبداع منقطع النظير.
مجتمع المصعد، رمز للمجتمع بما يضطرب فيه، وبما يقوده عن غير علم بوّاب (هل من رمز لنظام سياسيّ) يلعب بالمصعد عن غير وعي صعوداً وهبوطاً سريعاً بما يثير الصدمة والخوف، حتى يصير التعلّق بين السماء والأرض مجالاً لانتظار الخلاص. وحينما يذهب لطلب نجدة المهندس، ينسى المصعد بين السماء والأرض وينشغل بالمباراة!
وهنا في ظل هذا الفساد والعبث، كان لا بد من التدخل الخارجي، للإنقاذ من خلال....
فهل أعمق من هذه السخرية بما تكتنزه من نقد اجتماعي (وسياسي) مبطن!
يذكرنا الفيلم-الرواية، بالفيلمين اللذين اعتمدا على روايتي محفوظ «ميرامار» و»ثرثرة فوق النيل»، كونهما أيضاً تتعلقان بمصائر أفراد التقوا في مكان واحد.
ولا أدري إن تم معالجة تلك الأعمال الروائية عبر مسرحيات، في ظل انزعاج الرقابة بها جميعاً رواية وسينما، كونها تناقش بصراحة منظومة الاضطهاد بشكل رمزي، ونفور النظام ربما من وجودها على خشبة المسرح.
ولنا دوماً أن نتصور جرأة الكاتب والمخرج، في بلد أصبحت فيه السينما تتبع الدولة، وهو مجال للرقابة عليه، من قبل الإنتاج وخلاله وبعده.
كان عمر أبو سيف وقتها 44 عاماً، أي قبل النصف، أي في عز شبابه الفني والعمري، وكان نجيب محفوظ يكبره بعقد من السنوات أو أكثر، بما يمكن أن يدفعهما لممالأة النظام السياسي الفتي والشاب.
فمن لنا بنجيب محفوظ وصلاح أبو سيف اليوم ليكشفا بعمق منظومة الفساد بجرأة فنية عالية في هذه المرحلة التي اختلطت بها كمامة «الكورونا» بكمامة الصوت!
- هل بقي شيء؟
- أين؟
- بين السماء والأرض!
- بين الأرض والسماء.
«بين السماء والأرض»، رواية، وفيلم، وواقعاً كان وما زال يكون، في هذا الحيّز المعنوي والمكاني هناك يعني هنا. وهكذا، فقد وجدنا أنفسنا كما مجتمع المصعد؛ الذين رأوا أنفسهم من دواخلهم لا من السطح، والذين تعمّقت لديهم معاني الحنان والمحبة والاستقرار الأسري والسلام، وأن هناك في الحياة ما يدفعنا لا للحرص عليها فقط، بل لإبداع الحياة. أما ذلك الزاهد بالحياة، فقد وجد أخيراً طريقه للحياة.
- لعلنا مثلهم/ن!
- لعلنا!
فبعض الحنان والمحبة والحكمة والعقلانية، سيكون كل ما نطمح إليه، وهو حقنا في التحرر والعيش سعداء أحرار على الأرض، لا متعلقين بين السماء والأرض.
فإن أردنا، وسرنا وتذكرنا ما كان، وتأملنا فيما يكون، واقتربنا من المهنية والحكمة، فلن يغامر بنا مغامر، ولن نحتاج يداً خارجية للتدخل!