بقلم : تحسين يقين
مرة أخرى، نحن إزاء مقترح جمالي وإنساني، اجترحته الكاتبة هدى الشوا بإبداع خاص متكامل كأروع ما يكون، بحيث ضمت في ثنايا روايتها «تنين بيت لحم» للفتيان عناصر عدة، تضافرت معاً، لتقديم قصة فتى مثلهم، بنوازعه النفسية وقلقه، ضمن بيئة اجتماعية متنمرة، وسط مكان مستلب، لتبدأ الصراع النفسي داخل الفتى، وتمضي بالصراع الاجتماعي، فالصراع الوطني، دون تكلف، بما جذبتنا فيها من تركيز على الشخصية بأبعادها ومشاعرها، وردود فعلها، خصوصا في فيزياء العلاقة الاجتماعية، بين فتى الرواية، والشخوص الآخرين، حيث مثلهم زميله مروان، في حين يسكن في العمق والخلفية بعد الصراع، نتيجة الاحتلال، الذي يلمح لمحاً في أثره على مرض الأب العصبي بسبب عنف الاحتلال، ويزداد حضوراً في تأمل خضر لصور الشهداء، خصوصاً صديقه عدنان، وصولاً إلى لحظة الاجتياح، بما يحمل من احتمالات القتل والإصابة.
خضر الفتى بفضائه المحدود في البيت الواقع في مخيم الدهيشة، والمدرسة، بما فيها أيضاً من حدود وقيود، يجد في مدينة الميلاد بيت لحم بعض الاتساع، وبهالة، ابنة صاحب محل الأنتيكات ملاذاً عاطفياً، وعلى الرغم منكل تلك القيود، إلا أنه يقوم من خلال الإرادة الإنسانية بكسر القيود جميعها، عبر حلم إنساني عظيم، داخل الفضاء الكبير، الذي يتجاوز المخيم والمدينة، إلى الشرق والغرب، ليلامس البحر الميت، بيمينه، ثم ليلامس البحر الأبيض بشماله، وبينهما القدس، التي يطل عليها ببصره وبصيرته، وبتلك الطبيعة الغنية بما فيها من نبات وطير، وصوت غناء. ثم ليتجاوز زمن حصار الاحتلال لبلاده، فيدخل أزمنة أخرى، وصولاً لزمن سيدنا الخضر، حين يقاوم فعلياً مشاعر الخوف والإحباط، من خلال رمزية التنين، (كما قال الخوري لخضر: كل منا عليه أن يقاوم تنينه) صفحة 53، لتصبح المنحوتة الخشبية لسيدنا الخضر تميمة تحميه من رصاصة أحد جنود الاحتلال، فيكتمل الخلاص مادياً وروحياً.
ثم لنمضي مع خضر في أحداث الرواية، في رحلته الشعورية، ورحلتنا داخل أنفسنا، فكلنا فينا شيء منه، وربما كنا أحد هؤلاء الذين تنمروا يوماً، وفي الحالتين، تذكرنا كيف امتلكنا مقاومة التنمر، وكيف عدنا رشدنا متطهرين من سلوكنا، لننتبه لمن يسلبنا جميعاً الحياة، ليعود التناقض الطبيعي مع الاحتلال كشرّ مطلق.
سيكون مفتاح الخلاص، في مدينة الميلاد، للاجئين الصغار والكبار، هو في «تغيير المنظور»، أكان ذلك رؤية المخيم عن بعد، ورؤية لبيت لحم، فالوطن، وراء جدار الفصل وأمامه، من خلال الارتقاء والطيران عبر حلم مشروع. وسيكون «تغيير المنظور»، بداية جادة، لامتلاك إعادة الاعتبار للذات، وقدرتها على القيام بواجبات المدرسة، والدفاع عن النفس، لكسر الصورة النمطية، التي تكونت عنه «هبيلة ابن هبيلة»، من جهة، والتنقل بحرية في الوطن دون تصريح من سلطات الاحتلال، من جهة أخرى، والحق بالحياة من جهة ثالثة.
قصة الرواية واقعية جداً؛ فماذا سيفعل الفتى خضر ابن الـ 16 ربيعاً، ما عاش فيها ربيعاً واحداً، والذي تم إيداع والده مستشفى الأمراض العصبية، بسبب ما تعرض له من ضرب الاحتلال على رأسه، فاضطرت والدته للعمل لتأمين قوتهما، في ظل حال فقيرة، تغري بعض زملائه، كمروان للتنمر عليه، بل وبعض معلميه أيضاً، الذين يسطون على ثقته بنفسه؟
ماذا يفعل غير الشعور بالتعنيف، والشعور برد العنف لمروان، وللمعلم الذي يسخر منه؟ وماذا يفعل غير العودة لبيته ملاذاً ولأفلام توم وجيري، من المطر والبرد وإيذاء البشر؟ لمن يذهب غير اللجوء لسريره ولحافه برسومات توم وجيري أيضاً، بإيحاءات تلك المطاردات بينهما؟ بل كيف سيزور والده الذي لم يعد أصلاً يتعرف عليه بسبب مرضه؟! وأين هي ممكنات التنقل والحركة، غير شارع النجمة، ومجرد اقتناص بعض الفرح لرؤية هالة، التي اعتادت التضامن مع أسرته؟
إنه يعاني معظم الظروف، كما يعاني من احتمالية الغرق باليأس والكراهية، إلى أن يحدث التحول الاجتماعي - النفسي، بنجاحه في القيام بواجبات المدرسة، وبما يحصل عليه من إعادة الثقة بنفسه، من خلال «هالة»، التي تتعامل معه بندية، بل وتمنحه هدية، وصولاً إلى التحول الأكبر، وهو تصالحيته مع كل هذا الألم، من خلال ضميره الحيّ، الذي يرى في احتمالية مقتل مروان، من قبل جنود الاحتلال، عقاباً مضاعفاً لمروان المتنمر عليه، فنسمع ما يشبه مونولوجه الداخلي:
«كم يكره مروان، يكرهه كرهاً شديداً، ولكن هل كان يكرهه إلى حد تمني الموت له؟ هل كان ليفرح لو رأى رصاصة تخترق جمجمته فتسقطه من فوق السطح؟ هل سيسعد إن رأى وجه مروان قد أضحى بوستراً جديداً على حوائط المخيم؟»، فيحسم أمره، بعد هذا الصراع الداخلي، وصولاً لصعود البناية لتخليص مروان. صفحة 67.
وفي لحظة تخليص مروان من رصاصة الاحتلال، التي تنطلق من أحد جنود الاحتلال، تصبه الرصاصة التي «ترتي» في منحوتة سيدنا الخضر الذي يظهر فيها ضارباً التنين، فينجو ويخلص مرتين: من الرصاصة ومن الكراهية.
امتلك خضر نفسه، واستعاد ثقته بنفسه، من خلال ثلاثة أحلام، اعتلى فيها التنين الذي طاف به مرتقياً لأعلى، كانت نتيجة الحلم الأول اختبار نفسه في الحفظ وتسميع القصيدة، فيما كانت نتيجة الثاني بعد التعرف على الوطن من أعلى هو كتابة بحث عن المكان وما فيه من موجودات، رابطاً بين مدن فلسطين التاريخية، بين بيت لحم والقدس ويافا، مقدراً تضامن الفنان بانكسي برسوماته الناقدة والساخرة من الاحتلال على جدار الفصل العنصري. أما الثالث، فكان الخلاص الرمزي، من خلال العودة لأسطورة التنين في قصة سيدنا الخضر عليه السلام، وكيف أعاد الخضر لأهل المدينة السلام حينما قضى على تخوفاتهم وأوهامهم. من خلال زيارة دير مار جرجس، وحواره العميق مع الخوري، وكيف على كل منا تخليص نفسه: «كل منا عليه أن يقاوم تنينه»، واستدعاء للتاريخ الماضي عبر الحديث عن «مغارة الأطفال الأبرياء» الذين تم قتلهم، خشية هيرودوت من ميلاد المخلص، في إشارة إلى واجب مقاومة القتل، وعدم الاستسلام، وكسر الدائرة حتى لا يظل التاريخ يعيد نفسه، في ظل احتلال بشع لا يرحم حتى الأطفال.
وأخيراً تكون رحلة خضر الأخيرة، لتخليص والده، عبر وجوده إلى جانب والده، من خلال امتلاكه طاقة روحية؛ فما أن يرى الأب ابنه حتى يتذكره، وتساعده المنحوتة رمزياً فيتذكر ابنه، قائلاً في لحظة اكتشاف وصحو ويقظة من سبات طويل: خضر والتنين. وهناك أيضاً، يحلم خضر حلم يقظته بأن يصير يوماً طبيباً برداء أبيض.
وفي رحلة التخلص من التنمر الاجتماعي، يستيقظ ضمير الأستاذ حسن معلم الجغرافيا، حين يجد مروان وصحبه يضربون خضر، بمبرر اتهامه بالسرقة، من محل الهدايا، فيقرأ جبران في وجه ابنته هالة بأنها هي من منحته الهدية، فيخلص خضر، وربما يخلص هالة أيضاً. بل يخلص أيضاً المعلم.
التقطت هدى الشوا القصة بذكاء عبر معايشة بيت لحم والدهيشة، لتختار فعلاً قصة واقعية، ومن خلالها تعبر عن حياتنا، من خلال نقد علاقات القوة، باتجاه التضامن الإنساني والتسامح، عبر توسيع الرؤيا، «بتغيير المنظور» كمفتاح عبور، كمفتاح اللاجئ، الذي يتوق لاستخدامه يوماً حين العودة لبلده الأصلي. وكان ذلك الحلم من خلال أنسنة التنين، من جهة، وتطويعه من جهة أخرى.
إنه العمق الأدبي، القادم من ثقافتها، وواجبها الأخلاقي الملتزم بحق تقرير المصير فردياً وجماعياً، بتجاوز عقدة الخوف كما قال التنين: «في كثیر أشیاء بتخوفنا مثل البحر، بس إذا قربنا وشفناها ممكن نكتشف أنها بتخوفش - كون شجاع».
كذلك، كعهدنا بها، تستخدم رحلة المكان والزمان، فتروي عن المخيم واللجوء وتاريخ بيت لحم وكنيستها، بل وطبيعة المكان، والجغرافيا السياسية.
سلسة وجذابة من دون حشو كانت رواية الفتيان «تنين بيت لحم»، وودنا لو لم تطل المسافة بين ذكر هالة الأول والأخير في الرواية، حيث أمكن زيادة المساحة الخاصة بهالة وخضر.
«تنين بيت لحم» اقتراح جمالي في التربية العميقة على التسامح ونبذ التنمّر، عبر رحلات الفتى في نفسه وفي المكان والزمان باتجاهات تصالحية، حيث يعانق التسامح الإبداعي قلوب الصغار والكبار.
* صدرت رواية «تنين بيت لحم» عن مؤسسة تامر الطبعة الأولى عام 2017، والطبعة الثانية عام 2020. ووقعت في 76 صفحة من القطع المتوسط. تصميم ورسوم الغلاف: حنان القاعي، تلوين الغلاف: مايا عقيقي.