من خلال خبرتي المهنية، تتبعت ملاحظة تطور المناعة أو المقاومة عند الآفات، سواء أكانت حشرات أو أعشاباً أو فطريات في مجال استخدام المبيدات، وحتى أن مبيدات مشهورة وبدون ذكر أسمائها أو أسماء الشركات التي تنتجها، كانت فعالة جداً قبل عدة سنوات حين تم البدء في استعمالها، وأصبحت الآن غير فعالة أو ذات فعالية قليلة لا تضاهي تكاليفها، أي أن الآفات تطورت أو تحورت وأصبحت تقاوم هذه المبيدات، أي أن المبيدات باتت لا تحقق الهدف من إنتاجها أو من استخدامها، وهذا ينطبق كذلك على أدوية يستخدمها البشر ضد الأمراض، أصبحت مسبباتها تقاوم أو تمنع فعاليتها، ومن أشهر هذه الادوية المضادات الحيوية، التي أصبحت البكتيريا بأنواعها تقاومها، حتى أضحت مضادات حيوية اعتدنا على استخدامها خلال عشرات السنوات الماضية لا تعمل أو لا فائدة منها.
والمناعة أو مقاومة الآفات للمواد المستخدمة ضدها تحدث بشكل رئيسي بسبب سوء الاستخدام وكذلك بفعل إمكانية التطور أو التحور الطبيعي لهذه الآفات من أجل أن تحافظ على البقاء وان تصبح أقوى، أي لو قمنا وعلى سبيل المثال باستخدام أحد مبيدات الأعشاب من أجل القضاء على أعشاب عريضة الورقة تنبت بين محاصيل مزروعة مفيدة، فإن هذا المبيد وفي السنوات الاولى من الاستعمال، سوف يقضي على حوالي 90% من الاعشاب، أي أن حوالى 10% من الأعشاب ولسبب ما، أي أنها قوية، أو تحورت بشكل بسيط بحيث لا يؤثر المبيد عليها، لا تموت أي تقاوم، ومع الزمن ومع كثرة الاستخدام تتكاثر هذه الأعشاب التي قاومت في البداية وتصبح الأغلبية بعد سنوات من الاستخدام وربما الاستخدام الخاطئ، ومع الزمن يصبح المبيد غير فعال، وهذا ينطبق تماما على المضادات الحيوية.
وهذا الوضع ينطبق كذلك على واقع فيروس كورونا هذه الأيام، حيث الأجسام المضادة التي ينتجها الجسم بشكل طبيعي أو تلك التي يتم تحفيز إنتاجها من خلال إعطاء اللقاحات، وكلما بقي الفيروس فتره أطول داخل الجسم الضعيف ذات المناعة المنخفضة، وبالأخص في خلايا الرئة، فإنه سوف يصبح أكثر مقاومة للأجسام المضادة، ومن أجل أن يحقق ذلك، فإنه يعمل على تطوير سلالة أو عينة جديدة أقوى من خلال احداث الطفرات، وهذا تماماً ما حدث من خلال ما يتم الحديث عنه هذه الأيام، أي عن العينة الجديدة من الفيروس التي تنتشر وبشكل سريع ومرعب في بريطانيا ودول أخرى في العالم.
فقد تحور الفيروس ليصبح أكثر التصاقاً بالخلايا داخل الجسم ومن ثم أصبح أسرع انتشاراً، ومع الزمن سوف تصبح هذه العينة الجديدة من الفيروس هي السائدة في كل دول العالم، ومع الزمن كذلك وبالاخص بعد استخدام اللقاحات بشكل واسع، سوف يتحور الفيروس أكثر وأكثر وأسرع وأشرس لكي يقاوم الاجسام المضادة، وبالتالي يبقى وينتشر ويحافظ على قوته ووجوده، وربما يصبح أخطر من خلال شدة الاصابات أو عدد الوفيات.
ورغم البدء في استخدام اللقاحات في دول عديده في العالم خلال الايام أو الاسابيع الماضية، ما زال انتشار الفيروس يتصاعد وعدد الاصابات والوفيات في ازدياد، ورغم التباطؤ هنا أو هناك، الا أن الانتشار يعود ويرتفع، وفي ظل هذا التصاعد، وسواء تمت تسميته موجه ثالثة أو رابعة أو خامسة، يعيش العالم بأجمعه ونحن منهم في حالة من التخبط والقلق والترقب والتوصيات بتجديد الاجراءات، وبالتالي يعود مرة أخرى الى نوع من القيود والاغلاقات ومنع التجمعات وغير ذلك من الاجراءات التي ورغم الجدل حول فعاليتها، ألا أنه من الواضح انها لا توفر الحل الجذري المستدام للتعامل مع فيروس كورونا، حيث وكما بينت الاوضاع في دول عديدة، يعود الفيروس للتحور ومن ثم للانتشار وربما بشكل أقوى وأخطر حين يتم رفع أو التخفيف من القيود.
والتصاعد التدريجي المطرد في الاصابات بفيروس كورونا وبالاخص من خلال العينة المتحورة وربما عينات اخرى يدل على أن الغموض ما زال يكتنف هذا الفيروس، وأنه ورغم الدراسات والابحاث والاموال التي تم ويتم انفاقها من أجل التعرف أكثر عليه، ألا أن العلماء والمختصين لم ينجحوا بعد في معرفة الآلية الدقيقة لانتشار هذا الفيروس، وطبيعة عمله أو تأثيره على الاجسام المختلفة لبني البشر، ومستوى أو تركيز الاجسام المضادة التي يفرزها جسم الشخص المصاب وبالتالي قوة وفترة المناعة، ومستوى أو مدة بقائه في الجو أو على الاجسام المختلفة، وكيفية احداثه الطفرات أو التغيرات التي يقوم بها من أجل التحصن والمقاومة.
وفي ظل هذا الوضع، يتخبط العالم بين القيود وبين احتمالات انهيار الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وبين الامل بفعالية اللقاح وبين إمكانية عدم تقبل الناس لاخذ هذا اللقاح، وفي نفس الوقت، ما زال العالم ونحن منهم، يتخبط بين مدى نجاعة إجراءات الوقاية ومدى التزام الناس بها، وبين واقع إصابة عدد كبير من الناس بالفيروس، وبالتالي التوجه نحو ما بات يعرف بمناعة القطيع، سواء أكان هناك لقاح أم لم يكن.
وحتى مع التوسع في استخدام اللقاحات، لا أحد يستطيع في الوقت الحاضر التنبؤ بكيفية انتهاء هذا الصراع الشرس بين فيروس كورونا الذي سوف يصبح له نوعيات متعدده في العالم، ومن ضمنه الدول الاقوى، التي تشهد عودة قوية للفيروس وبكل المقاييس، والذي من الواضح أنه لا توجد له نهاية في الافق، والذي ما زال يربك خطط التعليم والصحة والسفر والسياحة والاقتصاد وخطط التنمية في مختلف دول العالم، وما الإغلاقات الشاملة التي نشهدها هذه الأيام في الدول المحيطة بنا، الا الدليل على عمق الإرباك والشلل الذي أصاب وسوف يصيب صناع القرار وواضعي خطط التنمية بأنواعها.
وهذا الصراع غير المتكافئ مع الفيروس قلب ما اعتدنا عليه في مجرى حياتنا خلال عشرات السنوات الماضية، فالتعليم سواء اكان تعليماً عالياً أو في المدارس قد تغير تماماً، سواء من حيث الشكل أو المستوى، ولن يعود الى ما كان عليه في المستقبل القريب، وأولويات الصحة، وبالاخص التعامل مع أمراض مزمنة من سكري وقلب وسرطان تغيرت، وأصبح الشغل الشاغل لدوائر الصحة في العالم كورونا وتبعاته، ومن الواضح أن الوضع لن يعود الى ما هو عليه قريباً.
إن الواقع في بلادنا وفي بلدان أخرى في العالم، وفي ظل الواقع الذي نعيشه هذه الأيام من التفشي المجتمعي للوباء، أو الذي نحن سائرون فيه، هو واقع الوصول الى التفشي المجتمعي الواسع، وسواء مع لقاحات أو بدونها، وسواء فقدت اللقاحات فعالياتها بسبب تحورات الفيروس ام لا، وبالتالي أجلا أو عاجلا، شئنا أو ابينا، سوف نصل الى ما بات الكثيرون يتحدثون عنه، أي مناعة القطيع، وبالتحديد حين يصاب أو يتم تلقيح أكثر من 80% من الناس.