بقلم : عقل أبو قرع
خلال عملي في إحدى شركات الأدوية العالمية في الولايات المتحدة الأميركية، كان من ضمن المشاريع الواعدة التي تقوم بتطويرها، مشروع واعد من أجل اكتشاف وبالتالي تسويق دواء جديد لمرضى «الزهايمر» أو «ما يعرف بمرض الخرف»، والذين يقدر عددهم بالملايين في أميركا وحدها وبعشرات الملايين وربما أكثر من ذلك على مستوى العالم، ومعروف أنه لا يوجد في الوقت الحاضر دواء فعال يعالج أو يمنع أو يحد من تقدم مرض الزهايمر وتداعياته المدمرة صحياً واجتماعياً ومادياً رغم وجود بعض الادوية التي تقلل الآثار أو التداعيات.
وكان المشروع في مراحله الأخيره، أي في المستوى الإكلينيكي الثالث، الذي يتطلب اختبار الدواء على مرضى حقيقيين من البشر، يقدر عددهم بالآلاف، وفي مستويات مختلفة من تقدم المرض، وفي أماكن متنوعة في العالم، ومن خلفيات مختلفة، أي رجال ونساء، صغار وكبار، من البيض والسود وغيرهم، وما الى ذلك من تنوعات وسمات ومتطلبات حسب ما تحددها الأجهزة الرقابية الدولية، وبالأخص وكالة «إدارة الغذاء والدواء الاميركية» التي يقوم الكونغرس في العادة بالموافقة على تعيين مديرها.
ومعروف أن هذه المرحلة من التجارب الدوائية هي الاكثر تكلفة، حيث تكلف الشركات عشرات بل مئات الملايين من الدولارات، وبالتالي لا يتم الاستثمار فيها والبدء بإجراءات الفحص من خلالها، الا بعد دراسة وتمحص.
حيث إن شركات الادوية تقوم باستثمار جزء كبير من عائداتها في البحث وفي التطوير والاكتشاف رغم المخاطرة والمجهول. كما أن عملية تطوير واكتشاف الدواء، تتم بمتابعة من الاجهزة الرقابية، ولا يسمح بالانتقال من مرحلة الى أخرى في عملية التطوير الا بموافقة هذه الاجهزة الرقابية الصارمة التي تشرف من الناحية القانونية والعملياتية على تطوير الادوية.
فتطوير دواء للبشر، يحتاج وبعد التأكد من بعض الفعالية الكيميائية والبيولوجية في المختبر، الى تجارب طويلة ومتتالية على حيوانات مختلفة، ومن ثم على البشر، حيث تهدف شركات الادوية من خلال هذه التجارب الطويلة والمكلفة جدا الى التأكد من خاصيتين للماده الكيميائية أو البيولوجية الجديدة والمتوقع أن تكون دواء أو لقاحاً، وهما السلامة والفعالية، وبالطبع في المحصلة التسويق، أي وجود المرض الذي يستحق هذا الجهد لتطوير الدواء وبالتالي تحقيق الربح. وهناك حالات كثيرة من تجارب الادوية التي كانت واعدة، ولكنها فشلت في محطاتها الاخيرة ولأمراض مهمة، بسبب عدم السلامة والسمية أو بسبب عدم تحقيق الفعالية المتوخاة، مع كل التكاليف الباهظة التي أنفقت والجهود التي بذلت والتي في العادة تذهب دون تحقيق عائد صحي أو مادي.
وعودة إلى تجربتي، ففي خضم النتائج الايجابية التي أظهرتها المرحلة الاولى من تجربة دواء الزهايمر، والتي تتم في العادة على أشخاص أصحاء متطوعين من أجل اختبار سلامة الدواء، وكذلك النتائج الواعدة التي حققتها المرحلة الثانية من تجربة الدواء على بني البشر، والتي تتم في العادة على مرضى حقيقيين ولكن على نطاق ضيق، أي يقدر عددهم بالمئات، في خضم ذلك، كان هناك تفاؤل وأمل بأن يجتاز الدواء المرحلة الثالثة والأخيرة، وبالتالي تبدأ الخطوات الأخيرة من أجل وضع الدواء في السوق، أي في متناول المرضى الذين ينتظرون بشدة دواء يعالج أو يتعامل مع آثار «الزهايمر» المدمرة.
ونتيجة لهذا التفاؤل، كان تطوير هذا الدواء محط وسائل الإعلام والأجهزة الطبية والصحية، وشركات التأمين وعيادات وبيوت المسنين، وبالطبع الاجهزة الحكومية وخاصة الرقابية منها، والاهم كان ذلك محط اهتمام المستثمرين، أي رجال البورصة وأسواق المال، ونتيجة لذلك ارتفع سهم الشركة وبالتالي القيمة السوقية لها، لتصل الى مستويات لم تصلها من قبل، ولتتجاوز قيمتها في السوق حوالى الـ 80 مليار دولار أميركي، وكل ذلك بسبب توقعات نجاح الدواء وبالتالي وصوله الى المرضى الذين يكلفون الحكومة وشركات التأمين سنوياً مليارات الدولارات من العناية والتعامل مع تداعيات «الزهايمر».
ومع الانتهاء من تحليل نتائج التجربة الأخيرة، لم يجتز الدواء هذه المرحلة بنجاح، حسب المتطلبات الرقابية، ورغم الفعالية في التعامل مع المرض، إلا أن آثاره السلبية في الحد من حركة بعض الأطراف عند المرضى، دفعت الأجهزة الرقابية لإيقافه وعدم السماح بتطويره، ومع ذلك فقد المرضى الامل، وفقدت الشركة مليارات الدولارات من التكاليف، ومن الهبوط السريع في سهمها المتداول وفي قيمتها السوقية، والأهم كذلك فقد العديد من المسؤولين، في الشركة وبالأخص من أصحاب المناصب العليا مناصبهم.
ومن سرد هذه القصة، يمكن إلقاء الضوء على اللقاح الروسي الواعد، الذي اعلن عنه الرئيس الروسي قبل عدة ايام، والذي تفيد معظم المعلومات من روسيا ومن خارجها أنه لم يبدأ المرحلة السريرية الثالثة بعد، أي المرحلة التي تتطلب اختباره على الآلاف من البشر، وهذا بحد ذاته يدعو الى توخي الحذر وعدم التفاؤل المطرد في نجاح وصول اللقاح الى السوق في القريب العاجل، هذا مع الأمل بنجاح هذا اللقاح الذي يحتاجه مئات بل الآلاف من الملايين في العالم، لأنه وحسب المعطيات المتوفرة قد اجتاز المرحلة الاولى والثانية بنجاح، أي أنه اجتاز مراحل اختبارات السلامة أو الامان، وكذلك مراحل إثبات نوع من الفعالية، ولو على نطاق ضيق من المتطوعين الاصحاء والمرضى، وهذا يدعونا ولو بحذر أن نأمل بأن يصل اللقاح الى السوق، ومن ثم يحد من الضرر الشديد الذي احدثه فيروس كورونا في العالم.
ولكن ومع الامل بنجاح هذا اللقاح، إلا أن الخطورة تكمن أو تنبع من الاجواء التي ترافق مراحل تطوير هذا اللقاح، حيث التوتر الشديد في العالم، والترقب، والتنافس غير المسبوق بين الشركات ومراكز الابحاث في دول العالم المختلفة، من روسيا الى أوروبا الى الصين وأميركا وغيرها، وبالتالي تحول هذه المنافسة إلى تنافس سياسي اقتصادي ثقافي ايديولوجي سريع، وبدون إيلاء الاهتمام الأول لسلامة وحياة الناس والمرضى، حتى أن هذا السباق قد تحول الى سباق من أنواع سباقات الحرب الباردة، التي كانت تتم بين دول الشرق والغرب في الستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي، ومحاولة من يعتبر نفسه الأقوى أو الأكثر قدرة أن يكون هو أول من يقوم بإيصال اللقاح الى السوق، وهنا تكمن الخطورة، وبالأخص اذا تم اعطاء هذا اللقاح الى الناس وعلى نطاق واسع، مع آثار سلبية غير متوقعة، ويمكن في تلك الحالة توقع آثار خطيرة من كافة النواحي.