بقلم : عقل أبو قرع
شاهدنا، خلال الأيام القليلة الماضية، قيام مزارعين بإتلاف محاصيلهم بسبب انخفاض الأسعار، أو بسبب ضعف التسويق، وبالتالي عدم جدوى البيع، أو بالأحرى بسبب ضعف الطلب أو زيادة العرض. وما يحدث هو ما تعلمناه من آدم سميث الأب الروحي لاقتصاد السوق، بأن الأسعار مرتبطة بمعادلة العرض والطلب، أي كلما قل الطلب أو زاد العرض انخفضت الأسعار. ومع ذلك، فإن مشاهدة صور المنتجات الزراعية من الخيار أو البندورة أو الخس وهي تتلف أو يتم إلقاؤها على الأرض، لهو أمر مؤلم ومحزن، ويدعو إلى التساؤل عن دور الجهات الرسمية أي الحكومة، وبالأخص وزارة الزراعة، والجهات غير الرسمية التي تعمل في مجال الزراعة وبالتحديد في دعم المزارع.
هذا المزارع الذي يشقى ويتعب وتبذل العائلة بأكملها الجهد والوقت من أجل إنتاج المحصول، وبالأخص في مناطق الأغوار، حيث الزراعة المروية والمياه الجوفية والأرض الخصبة المستوية، والمناخ الملائم للزراعة في كل الفصول، وتنوع الإنتاج والمحاصيل من فواكه وخضار، حيث تعمل العائلة، والتي في الغالب تقوم باستئجار الأرض من مزارعين مالكين كبار، على إعداد الأرض وزراعة المحصول ورشّ المبيدات وقطف المحصول وتعبئته ومن ثم تسويقه، وبالتالي فإنه أمر محزن حين لا تجد من يقوم بالشراء أو الاضطرار إلى ببيعه بأسعار لا تضاهي القليل من تكلفة الإنتاج، وحتى حين ترتفع الأسعار ويحتج المستهلك، فإن المستفيد في هذه الحالات هم الوسطاء سواء من يشتري في المزرعة أو من تجار الجملة في أسواق الخضار، أو حتى تجار المفرق قبل أن يصل إلى أيادي المستهلك.
لقد تعاملت مع المزارع الفلسطيني وبشكل مباشر حوالى 6 سنوات، وبالتحديد في منطقة الأغوار، خلال عملي منسقاً لمشروع حول» سلامة وفعالية استخدام المبيدات الكيميائية»، في أواخر تسعينيات القرن الماضي، خلال عملي في جامعة بيرزيت، ومن خلال خبرتي، فإن هذا المزارع يتوق بشدة إلى الإرشاد وإلى وجود المرشدين معه في الحقل وبشكل عملي، والذي ما زال يفتقدهم أو لا يراهم إلا القليل خلال السنة، والذي هو تواق للتعلم وللإصغاء وللتعاون، والذي يعمل ساعات طويلة هو وكامل أفراد العائلة، من أجل أن ينتج ويعيش، وبالتالي يحافظ على الأرض وعلى المياه ويوفر المحصول والأمن الغذائي للناس والبلد، وهذا جميعه يحتاج إلى الدعم، بل أن يكون هذا الدعم من ضمن أولويات الحكومة.
ومع تركيز الحكومة أكثر على الاعتماد على الذات، ومع التوجه أكثر نحو الانفكاك تباعاً عن الجانب الإسرائيلي في مختلف المجالات، ومع أهمية الاستثمار في قطاعات إنتاجية مستدامة تدر الدخل وتشغل الأيادي العاملة وتحقق الأمن الغذائي وتزيد التصدير إلى الخارج، من المفترض أن يحتل القطاع الزراعي الأولوية لمشاريع وخطط الحكومة، سواء أكانت قصيرة أو بعيدة المدى، وأن يكون ذلك بشكل عملي.
نعلم أن القطاع الزراعي في بلادنا، له دور مهم، وساهم بنسبة مهمة في الناتج المحلي الإجمالي، ولكن حسب تقارير حديثة، فمساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي تقلصت إلى أكثر من النصف، أي من حوالى 9% في العام 1999 إلى 4% فقط أو أقل من ذلك خلال السنوات القليلة الماضية، ومن أسباب ذلك القيود على الوصول إلى الأرض والمياه، خاصة في المنطقة المصنفة «ج»، ولكنْ هناك أسباب أخرى، يمكننا التحكم بها، ومن خلالها يمكن إيلاء الاهتمام المطلوب للمزارع الذي يحافظ على هذا القطاع، وزيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك في تحقيق الأمن الغذائي من حيث توفير المنتج الوطني، وزيادة التصدير، وتشغيل المزيد من الأيادي العاملة التي يوجد منها الآلاف التي تطمح إلى العمل.
وتكمن قوة أو استدامة النمو الاقتصادي لأي بلد، أو ثبات وتواصل النمو في الناتج القومي الإجمالي السنوي، أو أداء الاقتصاد الكلي، بمدى تنوعه، أي بمدى تنوع القطاعات التي يعتمد عليها، من خدمات ومن سياحة وصناعة وزراعة ومن غيرها، وهذا ربما يفسر سر نمو وتنامي قوة أداء اقتصاديات بعض الدول، وبل صعودها المتواصل إلى احتلال مواقع متقدمة ضمن أقوى اقتصاديات العالم. ومنها تركيا، التي بات اقتصادها بتنوعه من أقوى اقتصاد الدول العشرين في العالم، وغيرها من الدول التي شهدت وتشهد نمواً اقتصادياً متصاعداً ومستداماً، وهذا يعني الاستثمار في قطاعات مختلفة، وبالأخص قطاعات إنتاجية، تنتج للاستهلاك المحلي وكذلك للتصدير، وتشغل الأيادي العاملة، وتحافظ على الأمن الغذائي، وتساهم في الناتج القومي الإجمالي، ومنها قطاع الزراعة.
وبالإضافة إلى التسهيلات الضريبية والمالية للعاملين في الزراعة، فدعم القطاع الزراعي يمكن أن يشمل القيام بتوفير المواد التي تتطلبها الزراعة الحديثة من بلاستيك وأسمدة ومبيدات، والمزيد من الإرشاد الزراعي وبأنواعه فيما يتعلق باختيار المحصول والأرض، والإرشاد حول استعمال الكيماويات في الزراعة، والإرشاد فيما يتعلق بالقطف والتسويق، والدعم يشمل المزيد من التخطيط الزراعي والنظرة الوطنية لذلك من حيث استخدام المياه والأرض، ومن حيث الاستهلاك المحلي أو التصدير، ومن حيث فتح الأسواق الخارجية.
والدعم للقطاع الزراعي يمكن أن يشمل التنسيق لحماية المزارع والمنتج الوطني، سواء من خلال العطاءات أو إصدار المواصفات أو الفحوصات المخبرية، والدعم يشمل التوجه نحو الأبحاث العلمية التطبيقية، التي تعمل على تلبية حاجات هذا القطاع وحلّ مشاكلة المحددة، والعمل على إيلاء التدريب الزراعي الأهمية بدءاً من المدارس وحتى الكليات المتخصصة، والعمل على تقديم الحوافز والضمانات للقطاع الخاص للتوجه وللاستثمار في الزراعة، وكذلك العمل على إزالة تلك النظرة إلى القطاع الزراعي بأنه ليس أولوية وليس مربحاً وليس بالخيار الأول للعمل أو الاستثمار فيه.
ومع خسارة المزارع وبالتالي خطورة تخليه عن هذه المهنة المنتجة، تجب الإشارة إلى العديد من التقارير الدولية التي أكدت أن منطقة الأغوار، السلة الغذائية لفلسطين، التي هي في معظمها يتم تصنيفها مناطق «ج»، يمكن أن تدر للاقتصاد الفلسطيني، حوالى مليار دولار سنوياً، إذا تم استغلالها بالكامل وتوفير الدعم المطلوب لها، أي إذا تمت إزالة العوائق الإسرائيلية. وهذا يدعونا إلى التفكير والتخطيط الإستراتيجي، وإيلاء قطاع الزراعة، تحديداً الزراعة والمزارع في الأراضي الخصبة في منطقة الأغوار، الأهمية في خطط تنموية إستراتيجية، لأن هذا النوع من التخطيط هو الكفيل، بتوفير المزيد من الفرص للعمل، والحفاظ على الأسعار، وتوفير المنتج الوطني، والأهم الحفاظ على القطاع الزراعي كقطاع إنتاجي مستدام وأساسيّ للاقتصاد والبلد.