حسب التقرير السنوي الصادر عن وزارة الصحة الفلسطينية، بلغ عدد الوفيات في فلسطين، أي في الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 2019 حوالي 12670 شخصا، وحسب نفس التقرير، فقد شكلت الأمراض المزمنة أو بالأدق الأمراض غير السارية، أي الأمراض غير المعدية، حوالي 75% من أسباب إجمالي عدد الوفيات، وبالتحديد توفي حوالي 30% من مضاعفات أمراض القلب، وحوالي 16% بسبب أمراض السرطان، و12% بسبب تداعيات مرض السكري، وحوالي 11% من الجلطات الدماغية، وحوالي الـ 5% من أمراض الجهاز التنفسي المتعددة، ولو طالعنا التقارير السنوية السابقة لوزارة الصحة، للاحظنا الازدياد المستمر في نسبة الوفيات من الأمراض غير السارية وخصوصا المسببين الرئيسيين للوفاة، أمراض القلب والسرطان، اللذين يرتبطان بشكل مباشر بنوعية الحياه وتصرفات البشر، من تغذية وحركة وتلوث والتعرض لمواد كيميائية وتوتر وقلق وما الى ذلك.
ولو تفحصنا عدد الوفيات المعلن عنها حتى الآن، في بلادنا، بسبب تداعيات الإصابة بفيروس كورونا في العام 2020، والبالغة حوالي الـ 1240 شخصا، فإنها تشكل حوالي الـ 10% من إجمالي عدد الوفيات السنوية في العام 2019، وبالتالي ودون تقليل من خطر تداعيات الإصابة بفيروس كورونا، فإن الخطر الحقيقي الذي يواجهه المجتمع الفلسطيني هو التداعيات سواء على شكل وفيات أو أمراض مزمنة من تصرفات من الممكن ولحد ما التحكم بها، من نوعية الأكل والشرب وجودة المياه وتلوث الهواء والحركة والتدخين واستخدام المواد الكيميائية المتصاعد في نواحي الحياة المختلفة من صناعة وزراعة وداخل البيت وفي أماكن العمل، وكذلك بسبب ضعف التوعية الصحية وعدم اتباع السياسات الصحية الملزمة.
وللحد من تصاعد الأمراض غير السارية التي لم تكن بهذا الشكل في بلادنا قبل سنوات، فهناك العديد من الأمور والخطوات التي من المفترض القيام بها، حيث تتجلى أهمية السياسات الوقائية الصحية في الحد من أمراض عضالة او مزمنة مثل أمراض القلب والسكري وما ينتج عن البدانة أو الوزن الزائد أو السمنة، وبالطبع أمراض السرطان المتنوعة، والتي أصبحت خلال السنوات القليلة الماضية، هي المسبب الثاني للوفاة في بلادنا، أي بنسبة حوالي 16% من عدد الوفيات السنوية، سواء أكان ذلك في الضفة الغربية او في قطاع غزة، حيث انه وبالإضافة الى العوامل الجينية او الوراثية التي يمكن ان تساعد او تحفز النمو غير الطبيعي للخلايا السرطانية، وبالتالي بداية تشكل الورم السرطاني، فإن هناك ممارسات حياتية غير صحية وظروفا بيئية وأنظمة غذائية غير طبيعية، يمكننا التحكم بها او منعها او الحد منها وبالتالي الحد من الإصابة بالأمراض غير السارية وبالتالي الحد من نسبة الوفيات منها.
ومن الأسئلة البديهية التي يسألها الناس، حين قراءة او سماع المعطيات عن انتشار أمراض مثل أمراض السرطان عندنا، هو ما هي الأسباب لهذا الانتشار ولماذا الآن، أي لماذا لم يكن ذلك قبل عشرة او عشرين أو ثلاثين عاما، هل هناك عوامل بيئية او مسببات تتعلق بالغذاء او بطبيعة الحياة والعمل، وفي أي مناطق ينتشر السرطان، وما هي أنواعه، ومن هي الفئات الأكثر إصابة به، والى غير ذلك من الأسئلة، التي من المفترض ان تتم الإجابة عنها، من خلال أبحاث علمية موضوعية تنبع من الواقع عندنا، وبالتالي وضع الاستراتيجيات او توفير الظروف والعوامل لمنع الإصابة بمثل أمراض كهذه، او للحد منها او للتعامل معها، وذلك بالتوازي مع توفير الرعاية والعلاج والأدوية لها.
فمن الواضح ان هناك عوامل بيئية خارجية تؤثر او تداخلت في النظام البيئي الفلسطيني، يمكن انها ساهمت وتساهم في هذا الازدياد، سواء أكانت ملوثات كيميائية أو بيولوجية او غيرها، وسواء جاءت نتيجة الاستخدام في الزراعة أو في مجال الصحة العامة لمبيدات وأسمدة ومواد بلاستيكية وهرمونية وغيرها، او نتيجة الاستخدام الصناعي المتزايد لمواد كيميائية مختلفة، او ربما بفعل عوامل أخرى، منها الحروب الثلاث الأخيرة على قطاع غزة، وما نتج عنها من استخدام الآلاف من أطنان المواد الكيميائية بأنواعها المختلفة، والتي ما زال جزء منها يرزح وينتقل في النظام البيئي وبالأخص الى المياه الجوفية وبالتالي يؤثر في البيئة الفلسطينية.
ومعروف ان البيئة المحيطة بنا، من هواء ومياه وأغذية، او ارض وحيز قد تتلوث، حيث يمكن ان يتعرض الإنسان او المزارع لكميات قليلة من المبيدات الكيميائية مثلا خلال الرش، او في منتجات غذائية او في المياه، او التعرض لكميات قليلة من الرصاص في الهواء مثلا، او تعرض العمال الى عناصر الزئبق او الكادميوم خلال العمل في المصانع، او تعرض عمال البتروكيماويات الى البنزين الذي يعتبر مادة مسرطنة، ودون آثار لحظية ملموسة، ولكن وبعد فترة زمنية طويلة تظهر آثار ذلك على شكل أمراض مثل السرطان وما الى ذلك، وهناك دراسات عديدة تمت في بلدان مختلفة في العالم، ربطت بين التلوث الكيميائي في منطقة ما وبين ازدياد نسبة الإصابة بالأمراض المزمنة.
ومن ضمن الأمراض، التي تنتشر وبشكل واضح عندنا، أمراض السكري وبالأخص النوع الثاني المرتبط بما بات يعرف بظاهرة «السمنة» وأمراض الدماغ وما الى ذلك، وبات مؤكدا على صعيد العالم، والمنطقة العربية ونحن منها، ان «البدانة» أي الوزن الزائد، أو «السمنة»، هي المسبب الأساسي لأمراض القلب ولأمراض لها انعكاسات مباشرة على أمراض القلب مثل السكري، وارتفاع ضغط الدم، وربما كذلك وبحسب نتائج دراسات علمية متزايدة، تشكل عاملا محفزا لأمراض السرطان، وبالإضافة إلى الآثار الصحية والاجتماعية الواضحة للأمراض التي لها علاقة بالبدانة، فإن هذه الأمراض لها انعكاسات اقتصادية هائلة، على الفرد والدولة وشركات التأمين والمجتمع قاطبة.
ومن الأسباب الأخرى ربما ازدياد التدخين، حيث ان التدخين كنمط غير صحي من أنماط الحياة، له علاقة مباشرة بالأمراض غير السارية وخاصة أمراض القلب والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي، وفي بلادنا وحسب أرقام أوردها جهاز الإحصاء الفلسطيني قبل فترة، فإن أعداد المدخنين الفلسطينيين قبل عدة سنوات، على سبيل المثال، كانت حوالي 22% من تعداد السكان ممن هم في سن 18 سنة وما فوق، وتشير بعض الأرقام الى ان إنفاق الشعب الفلسطيني على التدخين يصل إلى حوالي 180 مليون دولار سنوياً، هذا بالإضافة الى أكثر من 100 مليون دولار أخرى، هي حجم التكاليف التي تدفع جراء معالجة الأمراض المرتبطة بالتدخين، وهناك دراسات عديدة في العالم ربطت بشكل مباشر بين التدخين والإصابة بسرطان الرئة.
وفي بلادنا وفي هذا المجال، بالإضافة إلى التوعية الصحية للمواطن، من المفترض أن تتبع وزارة الصحة سياسات صحية ملزمة ولتطبيق برامج تثقيف صحي غذائي، وخاصة إلى طلبة المدارس، وتبيان الخيارات الصحية الغذائية، أو حتى إصدار القوانين التي تمنع استهلاك المواد غير الصحية، كالأطعمة السريعة، والمشروبات الغازية، والسكريات، وما إلى ذلك، وهذا ما قامت وتقوم به العديد من الولايات في المدارس الأميركية، وبالإضافة إلى ذلك تشجيع ثقافة الحركة والرياضة، وكذلك إلزام الصناعات الغذائية، وأعتقد أن ذلك يتم بتبيان عدد السعرات الحرارية.
حيث من المعروف ان مفهوم الصحة العامة شامل يقوم بالأساس على مبدأ الوقاية من الأمراض وليس علاجها، ويشمل ذلك مفاهيم مثل التغذية الصحية، النشاط الحركي، صحة المرأة والطفل، السياسات الصحية، سلامة المهنة، وصحة البيئة، وغيرها، وهذا يهدف في المحصلة لتجنب انتشار أمراض معدية او أمراض مزمنة لها علاقة بالغذاء والسمنة، والحركة، والتلوث، وضغط العمل والحياة وما الى ذلك، ومن المعروف ان هناك مجتمعات ترزح وبقوة تحت وطأة العديد من الأمراض المزمنة التي باتت تشكل أعباء كثيرة على كاهل المجتمعات، سواء أكانت هذه الأعباء اقتصادية او اجتماعية او صحية، ومنها أمراض الزهايمر والاكتئاب والسكري والقلب والسرطان.
وبعيدا عن فيروس كورونا وتداعياته، والذي من المتوقع أن يكون حدثا عارضا لسنوات، وفي خضم هذه الدوامة المؤلمة، يجب التركيز على مبدأ الوقاية، أي البحث عن الأسباب الحقيقية لانتشار هذه الأمراض غير السارية، وبالتحديد معرفة الظروف او الممارسات في المناطق التي يتم تسجيل نسب مرتفعة فيها من السرطان وأمراض أخرى مزمنة، سواء أكانت ممارسات زراعية او استخداما مكثفا للمبيدات في بعض المحافظات، او انتشار النشاط الصناعي والكسارات والمحاجر في بعض المناطق، او ممارسات حرق مئات الأطنان من النفايات الإلكترونية والبطاريات التي يتم إحضارها من الجانب الإسرائيلي لمناطق في جنوب الضفة الغربية، وبالتالي استخلاص متبقياتها من أسلاك نحاسية وغيرها، او التعامل مع متبقيات الحروب على غزة، حيث ان البحث عن الأسباب الحقيقية هو الأساس للبدء ببرنامج وطني ووضع استراتيجيات صحية وبالتالي الحد من آفة باتت تنتشر وبشكل سنوي متزايد في مجتمعنا.