منذ اكتشاف فيروس نقص المناعة البشرية المكتسبة «الإيدز» في بداية الثمانينيات من القرن الماضي وملايين من الإصابات يتم تسجيلها سنويا، ومنذ ذلك الوقت توفي حوالى 40 مليون شخص نتيجة تداعيات الإصابة بالفيروس المسبب لـ»الإيدز»، وأصيب حوالى الثمانين مليونا في مختلف أنحاء العالم، وبالأخص في القارة الإفريقية التي تصل نسبة الإصابة بـ»الإيدز» في بعض دولها إلى حوالى 40% من عدد السكان، ورغم الأبحاث والدراسات وتسخير الآلاف من ملايين الدولارات، واكتشاف وتطوير الأدوية واللقاحات، ما زال الفيروس يفتك بالبشر ولم يتم التوصل حتى الآن الى دواء فعال يمنع انتقال وانتشار الفيروس، ولم يثبت أي لقاح فعاليته، وفي أحسن الأحوال تعمل أدوية «الإيدز» مرتفعة الثمن والتي من الصعب الوصول إليها في الدول الفقيرة، على محاصرة الفيروس ومنعه من التكاثر، وفي حال توقف أخذ الدواء يعود الفيروس ويتكاثر ويحطم جهاز المناعة مسببا في المحصلة الوفاة.
ويوم أمس، أوصت اللجنة الاستشارية المستقلة التي شكلتها «هيئة الغذاء والدواء الأميركية»، بالمصادقة على استعمال اللقاح المضاد لفيروس كورونا، الذي تقدمت به شركتا فايزر الأميركية وبيونتك الألمانية، والذي من المتوقع أن تتم المصادقة النهائية عليه خلال الأيام القليلة القادمة، وهذا يدعو للتفاؤل الحذر والأمل، ورغم أن توصيات اللجنة الاستشارية التي يتم اختيار أعضائها من خارج هيئة الغذاء والدواء، أي من الأكاديميين والباحثين والمختصين المستقلين عن أي جهة حكومية إلا أن السرعة وحالة الطوارئ والتسابق على اللقاح تدعو الى الحذر، ودعنا نبقَ متفائلين بألا يؤول مصير هذا اللقاح الذي تم تطويره والمصادقة عليه تحت ضغوطات من كل الأنواع، الى مصير لقاحات أخرى، فقدت مفعولها أو تبين عدم سلامتها للناس بعد فترة قصيرة من الاستعمال.
وتأتي المصادقة على اللقاح في دول العالم المختلفة في ظل تصاعد الإصابات والوفيات من «كورونا»، وفي ظل هذا التصاعد، وسواء تمت تسميته موجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، يعيش العالم بأجمعه ونحن منه في حالة من التخبط والقلق والترقب، وبالتالي يعود مره أخرى الى نوع من القيود والإغلاقات ومنع التجمعات وغير ذلك من الإجراءات التي ورغم الجدل حول فعاليتها، إلا أنه من الواضح أنها لا توفر الحل الجذري المستدام للتعامل مع فيروس كورونا، حيث وكما بينت الأوضاع في دول عديدة، يعود الفيروس للانتشار وربما بشكل أقوى وأخطر حين يتم رفع أو التخفيف من القيود.
والتصاعد المطرد في الإصابات يدل على أن الغموض ما زال يكتنف هذا الفيروس، وأنه ورغم الدراسات والأبحاث والأموال التي تم ويتم إنفاقها من أجل التعرف أكثر على هذا الفيروس، إلا أن العلماء والمختصين لم ينجحوا بعد في معرفة آلية انتشار هذا الفيروس الدقيقة، وطبيعة عمله أو تأثيره على الأجسام المختلفة لبني البشر، ومستوى أو تركيز الأجسام المضادة التي يفرزها جسم الشخص المصاب وبالتالي قوة وفترة المناعة، ومستوى أو مدة بقائه في الجو أو على الأجسام المختلفة، وكيفية إحداثه الطفرات أو التغيرات التي يقوم بها من أجل التحصن والمقاومة.
وفي نفس الوقت، تتسابق الدول وبقوة في محاولة للحصول على لقاح الفيروس، من المفترض أن نكون نحن من ضمنهم، وبأن نعمل وبشكل عملي على التحضير لاستلام وتوزيع وإعطاء اللقاح، وهذا لا يتطلب فقط توقيع الاتفاقيات مع هذه الشركة أو تلك، ولكن توفير الإمكانيات اللوجستية والبنية التحتية للتعامل مع اللقاح من لحظة استلامه وحتى إيصاله الى الفئات المستهدفة في أكثر المناطق بعدا أو تهميشا، وهذا يعني توفير أدوات التخزين والنقل والخبرات البشرية.
وفي ظل هذا الوضع حيث يتخبط العالم بين قرارات الإغلاق أو إجراءات القيود وبين احتمالات انهيار الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وبين الأمل بفعالية اللقاح وبين إمكانية عدم تقبل الناس لأخذ هذا اللقاح، وفي نفس الوقت، ما زال العالم يتخبط بين مدى نجاعة إجراءات الوقاية ومدى التزام الناس بها، وبين واقع إصابة عدد كبير من الناس بالفيروس وبالتالي التوجه نحو ما بات يعرف بمناعة القطيع، سواء أكان هناك لقاح أم لم يكن.
وفي ظل هذا التخبط والتقصي والتفاؤل باللقاحات، وبناء على نتائج دراسات أو أبحاث وأوضاع لها علاقة بفيروسات قديمة جديدة، يتضح تدريجيا أن هذا الفيروس سوف يبقى بيننا ولفترة طويلة، وبأن الحديث عن لقاح سليم وفعال، أو عن إجراءات أو قيود، لن تقضي على هذا الفيروس تماما، وفي احسن الأحوال سوف تخفف منه ولفترة معينة، والذي من الواضح أنه سوف تكون هناك موجات أخرى متتالية، وبأن الواقع سوف يفرض على العالم البحث عن أفضل الأوضاع والأحوال للتعايش معه وبأن هذه ستكون الاستراتيجية الواقعية خلال المستقبل القريب والبعيد، عندنا وفي مختلف دول العالم.
وبعيدا عن إجراءات الإغلاق بأنواعها ومسمياتها أو انتظار اللقاح، فإن المنحى التصاعدي للفيروس يتطلب منا التعود على التغيير، أي التغيير في أوجه الحياة المختلفة من أجل التعايش أو التناغم مع واقع الفيروس، ومن أجل تحقيق الحد الأدنى من الحياة في ظل أجواء التوتر والتباعد والحذر الذي فرضها وسوف يفرضها الفيروس خلال الأشهر وربما السنوات القادمة، والذي ما زال العالم يجهل الكثير عنه وعن كيفية التعامل مه ومع تداعياته، والذي فرض نفسه على القوي والضعيف، الغني والفقير، المتحضر والمتخلف، الذي يملك الإمكانيات بأنواعها والذي لا يملكها، وبغض النظر عن المناخ أو عن الموقع أو الكثافة السكانية أو مستوى الأبحاث وتوفر العلماء.
وسواء شئنا أم أبينا فإننا وفي ظل التعود على واقع التعايش مع «كورونا»، وبالتالي القبول التدريجي به كأي فيروس آخر، وفي ظل غياب بدائل أخرى، واقتناع الناس بأهمية التوازن بين الأمور المعيشية والحفاظ على الجانب الصحي أي الإغلاقات، فإنه من المفترض أن نعمل على التأقلم مع هذا الواقع، من حيث نظام التعليم أو على صعيد العلاقات الاجتماعية من أفراح وأتراح ومناسبات وتجمعات، وعلى صعيد تطوير النظام الصحي وبالأخص التركيز على مبدأ الوقاية والرعاية الصحية الأولية والتوعية الصحية، وكذلك على صعيد التعامل التجاري ومكونات الاقتصاد المختلفة وغير ذلك.
وفي نفس الوقت، ينبغي مواصلة العمل الجماعي المتكامل من أجل التخفيف من آثار «كورونا»، سواء فيما يتعلق بإجراءات الوقاية من حالات جديدة ومنع الانتشار، أو من ناحية الاحتواء والتخفيف من أوضاع حالية، أو من ناحية الالتزام بإجراء الفحوصات والبقاء في العزل الصحي أو البيتي، والاهم التحضير وتهيئة البنية اللوجستية من أجل التعامل مع اللقاحات حال وصولها.