في لحظاتٍ فجائية يُصبح المنطقُ ساذجاً، والعلم أضحوكةً، واليقين شكاً... هذا هو واقعنا العربيّ شئنا أم أبينا.
منذ الحرب العالمية الأولى والمنطقة العربية بمجملها تمر بمخاضٍ غير مستقر، المخاض أدى إلى «سايكس بيكو» وتحررنا على شكل قبائل ومذاهب، ومخاضنا المتواصل لم يسفر إلاّ عن ولادات مشوهةٍ غير قابلةٍ للحياة، معاقة ليس لديها القدرة على التقدم والسير في الفضاء الدوليّ، تابعة متنازعة في سبيل الحد الأدنى من البقاء المصاب بمرض التسلط والضعف.
مرت القضية الفلسطينية بمراحل شبيهة بكل الولادات المشوهة، وخلال عقدين من الزمن تحولت من قضية مركزية في الإقليم، إلى إشكالية عند البعض، يراها حملاً ثقيلاً على مصالحه. وما كان يقال خفيةً وفي الظلام خوفاً ورهباً أمسى معلناً وربما إنجازاً غير مسبوق.
حتى عندما يتحدث البعض عن المصالح فهي في المفهوم العربي أقرب إلى الأبوية وشيخ العشيرة، وليست مصلحة الشعب أو الدولة بمفهوم العلاقات الدولية.
لغة المصالح الدولية تعزز مفهوماً قومياً جامعاً، فمثلاً عندما يتحدث رئيس أميركي عن مصالح الولايات المتحدة، فهو لا يتحدث عن الحزب الجمهوري أو الديمقراطي أو عن قيادته المؤقتة، بل عن منظومة متكاملة، كي تبقى الولايات المحتدة دولةً مهيمنةً ومسيطرةً في العالم دون حدود، فهو يعلم أن النظام السياسي حدّد فترة حكمه ليخدم ثم يعود إلى البيت، وتبقى الدولة قويةً محافظةً على مصالح الشعب لا الفرد أو العائلة. وهذا ينطبق على الدول الكبرى الديمقراطية.
لغة المصالح في عالمنا العربي تعني تحقيق مصلحة النظام الحاكم واستمراريته وسيطرته المطلقة على مجريات الأمور صغيرها وكبيرها، على قاعدة أن النظام «يفكر، النظام يقرر، النظام ثابت»، وكل ما عدا ذلك فهو ضد المصالح.
نعود إلى التطورات المتسارعة في المنطقة التي تضرب على شكل اهتزازات قوية مخلفةً في كل مرة تسونامي سياسياً، تظل تداعياته السلبية طويلاً، مع تشويه إضافي لوجه المنطقة.
الأخطر فيما يحدث هو أن تصبح دولة الاحتلال وكأنها المنقذ لما تمر به كثير من الدول العربية.
دولة الاحتلال تصبح منقذاً اقتصادياً كما حصل في السودان التي في ليلة ظلماء «طبّعت» على أمل أن تساعدها تل أبيب في حل مشاكلها، ورفع الحصار الأميركي عنها، ورغم التنازلات فإن الوضع لم يتغير كثيراً عما كان عليه في زمن الديكتاتور البشير بل ربما ازداد سوءاً.
بعض دول الخليج تنظر إلى إسرائيل على أنها القوة الرادعة للهيمنة الإيرانية في المنطقة، وبالتالي ربما يَفتح باب التحالف معها المجالَ أمام إبعاد الخطر الإيراني، ولكن الذي يتناساه البعض أن إيران ليست نظام الملالي الذي قد يسقط في أيّ لحظة وإنما هي الشعب الإيراني . والغبي من يتجاهل استراتيجية العلاقات الإسرائيلية الإيرانية زمن الشاه.
السؤال: هل التعاون مع إسرائيل سيكون جالباً للمنافع وحافزاً للتطور العلمي والتكنولوجي والاقتصادي كما يتم الترويج له؟ وهل سيجلب السلام؟ الإجابة «لا كبيرة»، لأن التركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في هذه المنطقة لن تتغير بفعل اتفاقيات كهذه. والواقع يؤكد أن الأمور ستزداد تعقيداً والاحتلال سيزداد تغولاً.. أو ليست تصريحات قادة اليمين الإسرائيلي الحاكم منذ أمس تؤكد أنه لأول مرة ترسخ إسرائيل مفهوم «السلام مقابل السلام»، وتُنحي للأبد مفهوم «السلام مقابل الأرض». فهل هذا هو السلام الذي ينشده البعض!!! أم أن ما حصل وسيحصل من علاقات مع الاحتلال لن يزيد المنطقة إلا اشتعالاً ولو بعد حين؟؟؟
فلسطينياً نحن لا نرغب بمعاداة أحد، ولا نريد أن نكون في حلف أو جبهة إقليمية لأننا اكتوينا سابقاً وتعلمنا كثيراً، وقضيتنا أهم من كل الأحلاف أو الجبهات. كما تعلمنا خلال العقود السبعة الماضية أن صديق اليوم هو عدو الغد، وعدو الأمس هو صديق اليوم. والحالة السريالية العربية ستنقشع عاجلاً أم آجلاً، لأن طريق التنمية والتطور والحفاظ على المصالح لا تمر عبر آخر احتلال استيطاني على وجه الأرض، فالاحتلال لا يمكن أن يعطي، لأنه دائماً يأخذ.
لا نريد أن نسيء لأحد، ولكن في الوقت نفسه نرفض أن يساء إلينا.
اليوم قوتنا في وحدتنا... وما نمر به من زلازل سياسية غير مسبوقة تخرج الإنسان عن طوره يجب أن يقوينا لا أن يضعفنا. لأن المنطق اليوم معوج يلهث وراء المال، وعبره يصبح التفكير في أسعار البندورة أفضل من الخوض في تحولات مشوهة تمر فيها المنطقة.
ولكن مهما حصل فإن قضيتنا جذورها أعمق بكثير من كل محاولة اقتلاعها. ولو أقام الاحتلال سلاماً زائفاً مع كل الأنظمة.. فلن يحصل على السلام إلا من أصحاب الأرض ومن يتشبث بها.. هذا هو الشعب الفلسطيني القوي رغم الكوارث والنكبات كلها.