أشاع تصاعد بعض الدخان الأبيض من «إسطنبول» حالة من التفاؤل في أوساط الشعب الفلسطيني، عاكساً ما توصلت إليه القيادات المجتمعة من حركتي فتح وحماس من اتفاق يقضي بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني بشكل تدريجي، كما اتفق الاجتماع على اعتماد مبدأ التمثيل النسبي على أساس القرار بقانون رقم 9 للعام 2007، وبأن الوطن دائرة انتخابية واحدة.
حالة التفاؤل التي تولدت مجتمعياً مردها إلى الرغبة في التغيير، لكنها مع ذلك بقيت حالة حذرة نتيجة التجارب السابقة في هذا المجال، فرحلة البحث عن المصالحة شهدت عديد السيناريوهات والرؤى، واستندت إلى منطق وتحليل مرتبط بالواقع المتشكل بعد الانقسام، لكنه بطبيعة الحال لم يخلُ من المصالح. حيث اعتبر البعض أن الانتخابات مدخل نحو تحقيق المصالحة، بينما اعتبر البعض الآخر أن تحقيق المصالحة يسبق الانتخابات وأن الأخيرة تمثل أحد نتائجها.
وبالتالي فقد قاد مثل هذا الجدل إلى الفشل وإلى تبادل الفرقاء المواقع في النظرة للأولويات. ما ميّز هذا الاجتماع في إسطنبول أن الطرفين كما يبدو قد حسما أسبقية خوض الانتخابات وتجديد الشرعيات المتآكلة والتمهيد بوساطتها لعملية المصالحة، وإبداء النوايا الحسنة أمام الشعب المتشكك بنوايا الطرفين، قبل الذهاب إلى ملفات الانقسام المعقدة، دون إخفاء الخشية والقلق من استمرار باقي الملفات على حالها.
لقد أعلن الرئيس محمود عباس، من على منصة اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أول من أمس، عن قرار الذهاب إلى الانتخابات العامة، مؤكداً على تجسيد تعهده المقطوع، في أيلول الماضي، من على ذات المنبر، عن إجراء الانتخابات الذي لم يُقدَّر له النفاذ على الأرض لأسباب معروفة.
لقد شهد الواقع الفلسطيني ثباتاً في الانقسام على مدار ثلاثة عشر عاماً، نَمَتْ خلالها مصالح في استمرار الانقسام، وتقلبت الملفات على نار ساخنة وتسمّنت مراوحة بين التوتر الشديد والتوتر الأقل حتى أتت اللحظة التي إذا ما التقطت فحتماً بعدها تأتي النهاية.
وعلى ما يبدو فقد تبدلت الأجواء المشحونة بعد اجتماع «الأمناء العامين»، وهو ما مهَّد الطريق لتصبح مواتية للشروع في عملية المصالحة، إلا أن المخاطر والتحديات ما زالت تطل برأسها وما زال أصحاب المصالح في بقاء الانقسام يتربصونها، عدا التحديات الداخلية والخارجية التي لا يستهان بها، على وجه الخصوص في مرحلة انطلاق عملية المصالحة، فالذاكرة مثقلة بتواريخ الفشل وعدم الثقة.
والتحديات الداخلية التي لطالما واجهت الحوارات على مدار اثني عشر عاماً تقريباً، تتمثل بالإرادة السياسية في المضي نحو استعادة الوحدة الوطنية، وفي إصدار مرسوم إجراء الانتخابات بما يُمكِّن لجنة الانتخابات المركزية من القيام بجملة الأعمال التحضيرية والإجرائية، بما فيها المطلوبة لإنجاح العملية بدءاً من تحديث السجلات.
التحديات الخارجية لا تقل بخطورتها وانعكاساتها عن التحديات الداخلية، ستقف انتخابات القدس على رأسها، وكذلك الانتخابات في المناطق المصنفة «ج» ولجوء إسرائيل لوضع الحواجز بين المدن والقرى، والاعتقال، لوضع العقبات أمام الانتخابات، لذلك لا بد من تحويل عملية الانتخابات بجميع مراحلها إلى حالة اشتباك وطني وسياسي مع الاحتلال، وإظهار الحالة الفلسطينية الوطنية الخاصة بدءاً من التسجيل إلى النشر والترشيح والاقتراع، وأن تجتهد الأحزاب في استنهاض الواقع الوطني للشعب وجذبه لتطوير الحالة بشكل يفوق ويعلو على لمن سيصوّت المواطن.
وإذا كان ثمة إجماع وطني أن الاحتلال وممارساته التخريبية على الانتخابات ستشكل التحدي الأخطر أمام ممارسة حق الانتخاب للجميع، فإنه من الزاوية الأخرى يوفر فرصة من فرص تغيير قواعد الاشتباك السياسي الدائر حول العاصمة، بما يمكن من تدويل الصراع على القدس، وفي هذا الخصوص لا بد من الابتعاد عن الانزلاق نحو النقاش التقني وتوفير سبل وطرائق انتخاب المواطنين، باتجاه النقاش الذي يفتح على عروبة المدينة المحتلة وعدم مشروعية ضمها ضمن ما سمّيت «صفقة القرن».
لقد غابت الممارسة الديمقراطية عن الحياة الفلسطينية لردح طويل من الزمن، وهو ما حرم أجيالاً من المشاركة في اختيار ممثليها. لذلك عبرت نسبة 90% من المواطنين/ات عن رغبتهم في ممارسة حق الاقتراع، لأن انعكاساتها على حياتهم ستكون عميقة. ولأن الواقع الفلسطيني شهد تغيرات وتبدلات أثَّرت في حياة المجتمع فإنه من الطبيعي أن يتلهف المواطن لممارسة حق الاقتراع بكثافة غير مسبوقة لاختيار المستقبل الذي يريد، مدفوعاً بهمومه ومعاناته نحو المساءلة والمحاسبة.
هناك من يعتقد منذ الآن أن الحراك على الخارطة التنظيمية قد لا يأتي بمفاجآت بعد ثلاثة عشر عاماً لم تكن اعتيادية، قضاها الشعب في ظل الانقسام وتداعياته المؤلمة، لا سيما إذا ما أجريت الانتخابات وفق قوائم موحدة، لأنها ستكون توافقية ومسبقة الصنع، لكن مثل تلك التقديرات قد تدحضها نتائج صندوق الانتخاب، إذ قد تكشف أن ثمة قوى قد ظهرت وشكلت مفاجأة الانتخابات، مثلما قد تكشف عن قوى رحلت فعلاً وإن بقيت شكلاً.
في كل الأحوال، الانتخابات معركة ديمقراطية يجب خوضها على قاعدة كسر حلقة الأزمة المفرغة التي لم يغادر دوائرها الشعب الفلسطيني منذ الانتخابات الثانية عام 2006، المأزق الذي أنهك قواه وبهتت صورته أمام العالم، وعلى قاعدة أنها حق طبيعي ودائم للشعب لتجديد تفويضه لممثليه وتجديد شرعية القيادة والمؤسسات في آن.