التظاهرة الثانية من نوعها، خلال أسبوع واحد، في رام الله، تشير إلى إصرار حزب التحرير ومشايعيه من الجهات العشائرية والأصولية، على الاستمرار في هجمتهم المنظمة، منذ سنة تقريباً، ضد تنظيم المجتمع وقوننته ومحاربة العنف المتفشي، خاصة ضد الفئات الضعيفة المُعرضة أكثر من غيرها إلى أحد أشكال العنف بشكل خاص، «النساء، والمسنين وذوي الإعاقة والأطفال من الجنسين». حزب التحرير وحلفاؤه يعبرون عن مواقفهم من خلال الهجوم على اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة، وهي اتفاقية تهدف إلى تحقيق المساواة موجهة إلى 194 دولة حول العالم، ومن خلال رفض إقرار مسودة قانون حماية الأسرة من العنف.
رفض القانون وتأمين الحماية اللذين تطالب بهما الحركة الاجتماعية الحقوقية والنسوية، يدفع الأمور باتجاه المطالبة بفتح خيارات جديدة أمام القانون واستخداماته، في ظل الوصول مع الأصوليين إلى طريق غير نافذ، بعد فشل جميع الوسائل التي تم اللجوء إليها لإقناعهم بأن القانون ضرورة وليس ترفاً في الحالة العنفية المتفاقمة، كما لا يتعارض مع الشريعة كما يدّعون. بل وأكثر من ذلك، قام وزير الشؤون الاجتماعية بالطلب منهم تزويد الوزارة بجميع البنود التي تتعارض مع الدين والشريعة للتعامل معها، لكن لم يلاقِ طلبه التجاوب والاستجابة..!
بعد سنة تقريباً من الهجوم المتواصل ليس على القانون فحسب؛ بل على المؤسسات النسوية وعلى المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان، أعتقد أن جميع الجهود اللازمة قد بُذلت في سبيل الإقناع بالقانون وأهميته القصوى في الحالة التي استشرى بها العنف الاجتماعي، وتوضيح أهدافه ومقاصده من أجل سلامة المجتمع وأمنه مع تقديم الأرقام والمعطيات والشواهد، وما كشفت عنه تفاصيل مروعة من جرائم وانتهاكات مسّت حياة النساء بالقدر الذي مسّت حياة الأطفال وأصحاب الإعاقة والمسنين، من الجنسين. ومنها حوادث أليمة قرعت أجراس إنذار عالية على معاناة مجتمعية صامتة جراء العنف الفادح المرتكب في نطاق الأسرة، ضج بها الرأي العام المحلي والعالمي.
من جانب آخر، تم بذل الجهود الكافية من أجل تجسير المواقف المتضادة، بما فيها إلغاء السلطة التنفيذية لبعض المواد من المسودات المتعاقبة لإحداث الصدى الإيجابي وطمأنة القوى الأصولية عن طريق إزالة الجهة الرسمية بعض البنود لرفع تحفظاتهم عن القانون، لكنها لم تجدِ معهم نفعاً، لأنهم يحاربون الأوهام ويدافعون عن مصالحهم، بينما العنف بجميع أشكاله في تزايد.. لقد استمرت الحرب على جميع المحاور، الأمر الذي يطرح الوقوف أمام خيارات وبدائل ضمن الحفاظ على الخيار الديمقراطي من جانب، والحرص على السلم الأهلي والمجتمعي.
الحقيقة أنهم لا يريدون أي قانون خاص بالأسرة، وإنْ صدر قانون يريدون أن تبقى يده مكسورة، حتى لا يردع الجناة ولا يطالهم بحده، كما ظهر موقفهم من قانون العقوبات. إنهم عكس منهج القانون التربوي الإصلاحي الذي يردع ويحاسب، يريدون حماية المُعَنِّف عوضاً عن حماية المعنَّفين منه.
للحقيقة وبوضوح كامل، ما شجع حزب التحرير وحلفاءه على التمادي في مواصلة الحملة على القانون وعلى حقوق المرأة ومؤسساتها، مستخدمين الابتزاز والترهيب غير عابئين بأصول الحوار وأصول الاختلاف وتنظيمه، أنهم يستثنون خيار التجسير والوصول إلى نقاط التقاطع.
كان الأولى بالحكومة لمعرفتها بتعارض مطالبهم مع هوية الدولة، القيام ضمن إرادتها ومسؤوليتها بحسم الموقف وإصدار القانون دون تردد، لأن ترك الباب موارباً فتح على عملية استمرارهم في ممارسة الضغوط عليها للتراجع عن خططها، وقد التقط الحزب السلفي رسالة استمرار تأجيل القانون أو تعديله وعدم وضوح نوايا الحكومة تجاهه، فاستمر في حملته التشهيرية بجميع الأشكال.
لقد تصاعدت الحملة السلفية العشائرية بسبب الموقف الرخو للمستوى الرسمي، وبسبب مصالح القوى التقليدية بتدرجاتها التي تتفق على احتكار عملية التشريع، خاصة القوانين التي يعتقدون أنها ذات علاقة بالدين، وهم يعلمون أكثر من غيرهم أنه ليس كلها كذلك، مثل قانون حماية الأسرة وقانون العقوبات.
في هذه اللحظة، يبدو أن الحل لا يمكن أن يكون على حساب الضحايا أو تجاهل موقف الأكثرية المطالبة بدولة القانون والتشريعات والحقوق، دولة الهوية الديمقراطية التي تحمي التعددية والتنوع، دولة المواطنة والحقوق والواجبات المتساوية. كذلك لا يمكن أن يتم فرض التحكم والسيطرة على المجتمع وتأجيل القضايا المهمة من طبيعة حماية المجتمع من
العنف لحين الحصول على التوافق الذي يبدو بعد كل الجهود التي بذلت أنه لن يتحقق، لأن الاتجاه المتطرف لا يبحث عنه.
في هذه اللحظة أيضاً، لا يمكن فرض القانون على المعارضين له، سواء من يقود الهجمة على القانون أو من ينضوي تحت مفاهيمها. لأن المجتمع متعدد القيم والمفاهيم والرؤى والمصالح.. والتجربة تدل على أن التفاهم أصبح مستحيلاً.
لا نأتي بجديد في أن الواقع يشهد على تعددية القوانين المطبقة عملياً في فلسطين، الواقع يجمع بين قوانين مختلفة، يتجه أصحاب الحاجة للاستجارة بها وفق إرادتهم الحرة، وأكبر مثال على ذلك القدس الخاضعة لتعدد القوانين.. والأمر عائد للمستفيدين من القانون ورغائبهم ونوازعهم واتجاهاتهم.
هنا يطرح السؤال نفسه: ما الذي يمنع التوجه نحو إصدار قانون حماية الأسرة من العنف ليلجأ أو تلجأ إليه الراغبون/ات والمحتاجون/ات لعدالته، من الشرائح والقطاعات الاجتماعية الواسعة الموجودة في المجتمع، دون ضغوط أو سيطرة؟ وما الذي يمنع المعارضين له من عدم الاحتكام له أو اللجوء إليه، دون ضغوط أو سيطرة؟ حقهم مكفول كما هو حق لغيرهم.. أما انتظار التوافق أو استمرار التأجيل القانوني فهو أسوأ تمرين يمكن القيام به، إنه اللاموقف!