شهد العالم خلال القرنين السابقين ثورات متتالية أثرّت بشكل كبير على جميع مناحي الحياة. فقد وصلت الثورة الصناعية، أولى هذه الثورات، إلى ذروتها في منتصف القرن التاسع عشر محدثة تطوّراً هائلاً في وسائل وعلاقات الإنتاج.وشهد العالم في ثمانينيات القرن العشرين تفجّر الثورة التكنولوجية؛ ثورة الأتمتة (Automation) الناجمة عن تطور الحواسيب وشبكة الإنترنت.وتلا ذلك ثورة الرقمنة (Digitization) التي ربطت العالم بشبكات اتصال وتفاعل عنكبوتية فائقة السرعة، ما غيّر مجرى الحياة البشرية.
ومن الجليّ أن العالم يشهد الآن، بسبب تأثيرات انتشار جائحة كورونا، من عزلٍ وتباعدٍ اجتماعيّ وتعويضهما بالتواصل عن بُعد، انطلاق الثورة الرابعة، وهي الثورة في التعليم. وسيكون لهذه الثورة تأثيرات جوهرية على مستقبل البشرية والعالم.من الجدير الانتباه إلى ضرورة مواكبتنا لما يجري حاليا في مجال التعليم من حوارات في منتديات عالمية متعددة، ورصد التغيرات المقترحة والجارية، والسعي قدر الإمكان للانخراط المبكّر في مجرى الأحداث، لالتقاط نقاط التحول والاستفادة منها في الوقت المناسب حتى نحقق النتائج الإيجابية ولا نتخلّف عن الركب.فالتعليم بعد «كورونا» سيكون مختلفاً عمّا كان عليه حتى الآن، ومن يواكب هذه الثورة الجديدة سيتقدّم، ومن يتغيّب عنها سيتخلّف.
أحدثت جائحة كورونا اضطرابات فورية وحادة في قطاع التعليم على مستوى العالم. وفي محاولة للسيطرة على حِدّة انتشار المرض، سارعت الدول إلى فرض إجراءات لعزل الناس عن بعضها البعض، وكان من بينها إغلاق المدارس والجامعات، ما تسبب في أزمة تعليمية غير مسبوقة تأثر بها سلبا أكثر من 1.57 مليار طفل وشاب في العالم. أثارت الأزمة تساؤلات كثيرة حول جدوى التعليم بصيغته الحالية، وسَرّعت في إعلاء الأصوات المطالبة بضرورة إدخال تعديلات عليه ليصبح أكثر مرونة واستجابة لمتطلبات المستقبل.ولضمان استمرار العملية التعليمية، وفي ظل شح البدائل، اضطرت المؤسسات التعليمية لتبني التعليم عن بُعد بغضّ النظر عن مدى جاهزيتها لتوظيفه، ما أثار جدلاً حول جدواه في أوساط المشاركين في تطبيقه.توسع الجدل وتعمّق الحوار لاحقاً فتناول جميع أوجه التعليم (وسيلة صناعة الإنسان) وعلاقته المتينة بالتنمية، واتخذ شكلاً أكثر تنظيماً عبر تحالفات ومجموعات حوار من ذوي الخبرة والاهتمام، ضمن الدولة الواحدة وعبر الدول.
ستة جوانب لثورة التعليم
بشكل عام، ورغم وجود فروقات بين التعليم الجامعي والمدرسي من جهة، وبين مراحل التعليم المدرسي من جهة أخرى، يدور الحوار الآن حول الجوانب الستة الآتية التي يمكن اعتبارها تمهيدية لحدوث ثورة التحولات الجوهرية التي ستطال بنية التعليم ونظمه وسياساته، والعملية التعليمية برمّتها، بما فيها مخرجاته من القوى البشرية، والتي ستُشّكل مجتمعات المستقبل، وتُحدّد مجالات الاستثمار والتنمية في عالم المستقبل. وهذه الجوانب هي:
أولاً، التعليم عن بُعد: منذ البقاء في البيوت، وبخلال أسابيع قليلة من ممارسة التعليم الإلكتروني، اكتشف الناس أهمية التعليم عن بُعد. وبعد أن كان يُنظر بدونية إلى الشهادات المُتحصّل عليها عبر هذا النوع من التعليم، أصبح هناك إجماع على أن استخدامه سيتواصل ما بعد «كورونا». ويتمحور الجدل الآن حول كيفية ومدى توظيفه في التدريس. فالخبراء ينقسمون حالياً ما بين من يغالي في توقعاته ويرى بأن التعليم عن بُعد سيحل محل التعليم الوجاهي تماماً، ومنهم من يتخذ المنحى الوسطي الذي يُؤمِن باستخدام التعليم المدمج (الوجاهي مع الإلكتروني) كأفضل وسائل التعليم.
وعلى كل الأحوال، يعتبر الإجماع على أهمية التعليم عن بُعد، المترافق مع التحول الإيجابي في نظرة المجتمع إلى هذا النوع من التعليم والاهتمام بوضع حلول لمعالجة تحدياته، أساس الثورة القادمة في التعليم.ثانياً، الفجوة الرقمية: كشف الجدل حول متطلبات التعليم عن بُعد، عن الفجوة الواسعة في مستوى الجاهزية لاستخدام التعليم الإلكتروني، في العالم أجمع، وخاصة في البلدان النامية. ولمعالجة هذه المشكلة يسعى المؤمنون بجدواه ليس فقط لتوفير التمويل لمساعدة هذه الدول في إرساء قواعد البنية التحتية بما فيها الإنترنت، بل ولتزويد الطلبة غير المقتدرين بحواسيب واشتراك مجاني في الإنترنت لتمكينهم من الوصول لمصادر التعلم الالكتروني.
في حال نجاح وصول الإنترنت والحواسيب لكل بيت، كما وصلت الكهرباء سابقاً، فان جَسر هذه الفجوة سيكون من النقاط التحويلية باتجاه ثورة التعليم.ثالثاً، الاستخدام المكثف والمتسارع للتواصل عن بُعد: نتيجة للتباعد الفيزيائي والعزل المنزلي، ما زال الإقبال على استخدام أدوات التواصل الاجتماعي بين الناس في ازدياد هائل.ولعقد اللقاءات التعليمية والاجتماعات عن بُعد، زاد بشكل ملحوظ استخدام تطبيقات محادثات الفيديو عبر الإنترنت، مثل «زووم» و»ميتينغ» و»ويب إكس»، فعلى سبيل المثال تضاعفت عمليات تحميل هذه البرامج بمقدار 62 مليون مرة خلال الأسبوع الثالث من آذار 2020.
وكذلك الحال بالنسبة لاستخدام منصات التعليم الرقمية، خاصة المجانية منها مثل «كورسيرا». في ظل هذا الإقبال الهائل، وبعد أن كانت منصات التعليم لا تُؤخذ بجدية قبل الجائحة، يتسابق الآن العديد من الدول للاستثمار فيها وتسخير الخبرات في تطوير منصات تعليمية مرنة تستجيب للاحتياجات المستحدثة في العملية التعليمية. وفي هذا المجال، يشهد سوق تقنيات التعليم نمواً كبيراً ومتسارعاً.رابعاً، البيئة التعليمية: يُجمع المتحاورون على أن مساحات المدارس والجامعات لم تعد بحاجة للتوسع في ظل التعليم عن بُعد، إذ إن المساحات المتوفرة يمكن استخدامها بنظام التناوب ولأهداف محددة.ويدور الحوار الآن حول طرق معالجة التفاوت في توفير البيئة الملائمة للتعلم من البيوت أو أماكن أخرى.
ويشمل ذلك تخصيص الوقت المناسب والمساحة الضرورية لتوفير متطلبات الهدوء. ويعمل الخبراء على إعداد التوجيهات والإرشادات ذات العلاقة، ويتواصل الحوار لبلورة مبادرات وحلول إبداعية لهذا التحدي.
ويتوقع الخبراء نشوء مدارس مختصة بالتعليم فقط عن بعد وأن نشهد المزيد من الجامعات المختصة فيه.ويجدر التنويه إلى أنه لم يفت على المتحاورين حالياً الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية للتحول في العملية التعليمية لضمان سبل تحقيق المساواة للمتعلمين، ومعالجة أثر التعليم عن بُعد على عملية التنشئة المجتمعية المرتبطة حتى الآن بالتعليم الوجاهي.
خامساً، المحتوى التعليمي وعمليات التقويم والتدريب: حققت المؤسسات التعليمية التي تبنّت نظام التعليم الإلكتروني منذ العقدين الماضيين إنجازات كبيرة ومهمة في تصميم المحتوى التعليمي الإلكتروني، وإنتاج برمجيات التقييم، وتوفير المصادر التعليمية عبر المكتبات الإلكترونية، وتدريب وتأهيل المعلمين والمتعلمين على استخدامه، وشروط منح الشهادات للخريجين.وينقسم المتحاورون الآن ما بين مُؤيد لاستخدام تلك المصادر من خلال التعاقد مع منتجيها، أو أن تقوم كل دولة بإنتاج مصادرها الخاصة لتنسجم مع رؤية الدولة وأهدافها وثقافتها.
ومن الجدير بالذكر أن دراسات المحتوى التي أُجريت حديثا على العديد من مدارس العالم أظهرت تركيزاً كبيراً على مهارات التفكير، ودعت لإضافة مهارات التواصل وتعزيز قيم التعاطف الإنساني بطريقة متوازنة.
كما أوصت بتكامل المواضيع مع القضايا الصحية والمسؤولية الاجتماعية وانتهاج المنحى الشمولي التكاملي الذي يعرض موضوع الدرس بصورة شامله تتكامل مع جميع المباحث. ويُتوقع مشاركة الطلبة والأهل في تصميم أدوات التعلم والمناهج.ويعمل الخبراء الآن على تقديم إرشادات تساعد المعلمين والمتعلمين والأهل على التكيف مع الأدوار الجديدة المنوطة بهم.وهناك أصوات تنادي بضرورة تدريب الأهل على التدريس عن بعد بصورة استباقية، استعداداً للتغيرات التحويلية المتوقعة، كما يتم بالتوازي الإعداد لنشر ثقافة التعليم عن بُعد، بالتعاون مع وسائل الإعلام المختلفة.
سادساً، القوانين واللوائح التنظيمية: لاستيعاب الطلب المتزايد والمستمر على التعلم عن بُعد، يُتوقع أن تنهمك الحكومات في عملية مراجعة أنظمتها وقوانينها وسياساتها ولوائحها التنظيمية وحقوق موظفيها لتنسجم مع التعليم عن بُعد.ويتناول حوار الخبراء جدوى امتحانات شهادة إنهاء المرحلة المدرسية وامتحانات القدرات العالمية كمتطلب أساسي للقبول في الجامعات، خاصة أن الامتحانات العالمية لن تُعقد في وقتها هذا العام، ما أحدث إرباكاً لدى معظم الجامعات والطلبة الراغبين في الالتحاق بالجامعات.
ويقوم بعض الجامعات حالياً بمراجعة أنظمة قبولها وموازناتها وأقساطها السنوية، من أجل القيام بإجراءات تحويلية تتوافق مع التوسع في استخدام التعليم عن بُعد. ومن المتوقع أن نشهد مزيداً من التحالفات والتنسيق بين الجامعات للتكامل في تخصصاتها، وربما المشاركة في التقنيات ومصادر التعليم.وتجدر الإشارة إلى أن ما يزيد على 50% ممن يعملون الآن عن بُعد، من البيوت، قد عبروا عن رغبتهم في الاستمرار بذلك بعد انتهاء الجائحة. وهذا ينسجم تماماً مع التحول المتوقع باتجاه زيادة الاعتماد على هذا النوع من التعليم في المستقبل.
وبالطبع، ستكون لذلك انعكاسات إيجابية على الحياة المعيشية، كإعادة التواصل الأسري، وتحسين التوازن الديمغرافي ما بين المدن والريف، وتخفيف اكتظاظ وسائل النقل في ساعات الذروة، وتخفيف حجم التلوث البيئي، وتخفيض التكلفة المالية بشكل عام. في الملخص، تسببت جائحة «كورونا» التي أظهرت قصور التعليم التقليدي في الاستجابة السلسة لتبعاتها المتفاقمة على جميع مناحي الحياة، في تشكيل تحالفات ومجموعات حوار من الخبراءفي مختلف المجالات المتعلقة بالتعليم للتخطيط لتعليم أكثر مرونة واستجابة للثورة الرقمية والتعليم المستمر مدى الحياة.
وعلى التوازي، بادر بعض الدول والجامعات والشركات العاملة في إنتاج التقنيات وتصميم الحلول المبتكرة، باتخاذ الخطوات الاستباقية لتبني التعليم عن بُعد، ما يعني أن ثورة التعليم وتأثيراتها قد بدأت.لقد دخل العالم مرحلة جديدة عنوانها «تغيير التعليم». وسيكون لهذه العملية آثار جوهرية وبعيدة المدى على تنظيم الحياة البشرية في المستقبل، كما كان أثر الثورات المشار لها في مطلع هذا المقال، وقد يفوق. المهم أن ننتبه لذلك، وأن نبدأ بالاهتمام بذلك، كي نكون من المشاركين في هذه الثورة القادمة، وليس من القابعين على هامش الأحداث. فالمستقبل لمن يعي ويخوض التجربة مبكراً منذ بدايتها، لا أن ينتظر ليلتحق بها في نهايتها.