بقلم : تفيدة الجرباوي
آن الأوان لكي يكون امتحان الشهادة الثانوية العامة "التوجيهي" للعام القادم 2020/2021 خاتمة هذا النوع من الامتحانات في البلاد. يجب أن يُغلق هذا الملف، فالفائدة منه قليلة، والمعاناة منه كبيرة. ويُفترض أن يُشرع منذ إغلاق ملف الامتحان للعام الحالي بالبدء بعملية مراجعة للنظام التعليمي بطريقة عميقة وشاملة، وبمشاركة مجتمعية واسعة، تنتهي بقرارات تحدد ملامح النظام التعليمي الجديد، والخالي من "التوجيهي". منذ سنوات عديدة والمطالبات بضرورة إلغاء هذا الامتحان تتكرر وتتصاعد. الطلاب وأهاليهم يتذمرون، والمهتمون والمختصون يطالبون، ولكن بعد انتهاء "فورة" الامتحان، يعود الوضع بالعادة لينساب كما كان، وكأن شيئاً لم يكن. هذا الترحيل المستمر لمشكلة مؤرقة ومزمنة، دون اهتمام حقيقي بمعالجتها جذرياً يجب أن ينتهي، وأفضل وقت لاتخاذ القرار الحاسم بالتغيير هو الآن.
المطالبات المستمرة بإلغاء امتحان "التوجيهي" لا تأتي من فراغ. بل يوجد من الأسباب الموجبة الكثير. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في ست نقاط أساسية هي:أولاً: إن هذا الامتحان ليس امتحاناً شاملاً، فهو لا يقيس مستوى القدرات التي يراكمها الطلبة عبر سنوات التعليم العام الاثني عشر، بل هو مقتصر على منهج السنة المدرسية الأخيرة، أي على الصف الثاني عشر. وفوق ذلك، يتسم هذا الامتحان بكونه أداة استرجاعية للتعليم التلقيني، إذ يفرض على الطلبة حفظ المقررات، بما في ذلك القوانين والمعادلات، ويدّربهم على الالتزام بنمطية الإجابات. والدليل على ذلك يتمثّل بنوبة الفزع التي تصيب البلاد عندما يتضمن امتحان أحد المباحث سؤالاً صيغ بطريقة غير مباشرة، أو جاء من خارج دفتيّ الكتاب المُقرر. يضاف إلى ذلك أن النتائج النهائية المعلنة للمعدلات لا تعكس مستوى القدرات الحقيقية للطلبة، وذلك بسبب التعديلات الضخمة للعلامات التي يجريها المسؤولون عندما يتدنى تحصيل الطلبة في هذا الامتحان.
ثانياً: قصور الامتحان في فحص مستوى قدرات التواصل واستخدام التقنيات ومهارات التفكير العليا التي يحتاجها الطلبة لتساعدهم في التغلب على مصاعب الحياة والمشاركة الفاعلة في إنتاج المعارف وبناء مجتمعاتهم وخدمة الإنسانية. فعلى سبيل المثال، نحن نحتاج الى تخريج طلبة قادرين على تفكيك المشكلات المعقدة الى عناصر وأجزاء أبسط، مع قدرة على فهم العلاقات ما بين هذه الأجزاء والعناصر وإعادة بنائها للخروج بحلول مبتكرة لتلك المشكلات. فهل يعمل "التوجيهي" على فحص مستوى تنمية هذه المهارات أم أنه يقيس مدى سرعة الإجابة عن الإسئلة المعتمدة على حفظ ما تم تلقينه لهم وما سينسونه بعد الانتهاء من تقديم الامتحان؟ أعتقد بأن السؤال لا يحتاج إلى إجابة، ومن يحتاجها عليه الاستئناس بآراء أساتذة الجامعات التي يفد لها الطلبة بعد النجاح في "التوجيهي".
ثالثاً: إن هذا الامتحان مصمم بشكل تمييزي ويحمل في ثناياه ايحاءات تفضيلية تكرس نمطية تفرعات التعليم خلال المرحلة الثانوية، فالامتحان له فروع، كالعلمي والأدبي والتجاري والفندقي. والتفرع الى هذه المسارات في آخر عامين دراسيين في المدرسة يُعمّق مبدأ عدم العدالة، ويؤكد على قصور التعليم في اتاحة الفرص المتكافئة لجميع الطلبة لتنمية مهاراتهم وتوفير الخيارات التي تتناسب مع ميولهم، عوضاً عن زجهم في مسارات تُقرر بالنيابة عنهم ما يحق لهم دراسته. فهل المتفوق في الفيزياء يجب قسرا أن يُحبّ الكيمياء، وليس التاريخ على سبيل المثال؟ إن تنميط المعرفة ما هو الا محاولة رديئة لتنميط العقول، وتكبر المأساة مع ربط هذا التنميط بتراتُبيَة المَكاَنة. فهذا التفرع يعمّق الاحساس بالفوقية أو الدونية، على أساس المسار، لدى الطلبة والأهل، وهو يكرّس، خطأً، نظرة مجتمعية إيجابية للملتحقين بالفرع العلمي، مقابل نظرة سلبية لطلبة الفروع غير العلمية. لقد حان الوقت لإنهاء التفرعات وتدريب جميع الطلبة على المهارات الأساسية والمفتاحية من خلال إعطائهم مواضيع مشتركة مثل اللغات والتربية الوطنية، مع إتاحة الفرصة لهم للانتقاء من بين مجموعات المواضيع الأخرى.
رابعاً: تقع عملية الإعداد للامتحان حالياً، ومتابعة خطوات إجرائه، بما فيها التأكد من ضبط جودته ومقياسه، على مجموعة مُقلصّة ومغلقة من المتابعين. ويكتنف هذه العملية الغموض وتنقصها الشفافية الضرورية للتأكد من جودة وفاعلية وكفاءة الضوابط الضرورية لضمان صلاحية امتحانات المباحث المختلفة ومواءمتها الجيدة لقياس حسن الأداء. وفي ظل طقوس السريّة والغموض المحيطة بكل ما هو مُتعلّق بمجرى هذا الامتحان، لا توجد طريقة واضحة لمتابعة الخلل إن وقع، سوى تقديم المناشدات التي تصل في أحيان كثيرة إلى نطاق التوسلات. لا يعرف أحد كيف تتم المساءلة والمحاسبة لمن يتسبب بخلل، وما هي الإجراءات المفروض اتّباعها لوضع المعنيين تحت طائل المسؤولية عندما يكون ذلك ضرورياً.
خامساً: تحدد نتيجة هذا الامتحان مستقبل الطلبة من حيث قبولُهم في الجامعات وتخصصاتها المتعددة، أو الالتحاق بمعاهد مهنية وكليات متوسطة، أو بدء العمل في السوق مباشرة، أو بقاؤهم في البيت بلا عمل. فهذه النتيجة هي المقياس الوحيد المستخدم لتقرير مستقبل الطلبة عند إنهائهم المدرسة، ما يجعل للامتحان هالة من القدسية. وبالطبع فإن تركيز الاعتماد على مقياس وحيد، هو "التوجيهي"، يحمّل هذا الامتحان وزناً أكبر بكثير مما يجب أن يحتمل. فعلامة "التوجيهي" هي مفتاح مستقبل شباب وشابات هذا الوطن، وليس غير ذلك. ومن لم يفلح بمعدل "جيد"، عليه أن يقتل عاماً من عمره كي يعيد الامتحان. ومن أراد أن يتحاشى هذا العقاب برّمته، ومن الأساس، عليه أن يوفّر من المصادر المالية المكلفة ما يمكّن أولاده من الالتحاق بمدارس خاصة تفتح لهم إمكانية العبور إلى المستقبل عبر بوابة امتحانات أرحب وأرحم.
سادساً: يشكل هذا الامتحان البائس سلاحاً مسلطاً على أهالي الطلبة الذين يساورهم القلق والخوف على مستقبل أولادهم منذ الولادة. وينتقل هذا الضغط النفسي للأطفال مع دخولهم المدرسة، وتزداد الضغوط وتتراكم مع الزمن لتصل الى مستويات لا يمكن تحملها في مرحلة الصف الثاني عشر عندما يواجه الطالب وأهله، وقد يكون ضمن ذلك جيرانه أيضا، معضلة معركة "التوجيهي"؛ أكبر وأهم وأقسى معركة مفروضة عليه. والأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح هنا: لماذا يجب أن تتعرّض حوالى ثمانين ألف عائلة فلسطينية في كل عام لهذه المعاناة الرهيبة؟ ومن أجل ماذا؟ ألكي تتمكن الجامعات من اعتماد هذا المقياس المُعلّب لقبول طالبي الالتحاق بها؟ لماذا لا تقوم الجامعات، كلٌ وفق معاييرها، بإخضاع المتقدمين لها لامتحانات القبول الخاصة بها، كما هو معمول في البلاد المتقدمة علمياً؟
لقد مكنت وسائل التواصل الاجتماعي جميع شرائح المجتمع من الوقوف على أوجه قصور هذا الامتحان، فقد أظهرت الفيديوهات، خلال الأيام القليلة الماضية، كثرة احتجاجات الطلبة على صعوبة الاسئلة وقصر الوقت الممنوح للإجابة عليها، خاصة في مبحثي الفيزياء والرياضيات. وأظهرت الفيديوهات أيضاً التزام الطلبة بالإجراءات الوقائية لمرض كورونا كلبس الكمامات التي، وعلى الرغم من ضرورتها، فاقمت من حجم الضغوط والتوتر. لقد شهدنا جميعاً وأحسسنا بمعاناة الطلبة المتراكمة والتي تفجرت إثر الامتحانات. لقد أظهرت نبرة صوتهم وبكاؤهم وانفعالاتهم العفوية مدى عمق جرحهم ورعبهم من النتائج، وتزعزع ثقتهم وخوفهم من المستقبل. وعوضاً عن الإمعان في استمرار فرض "التوجيهي" من الأجدى أن نستمع لهم ولأهاليهم، ولمتوالية التذمر المستمر منذ العديد من الأعوام. ومن نافل القول إن بدائل هذا الامتحان عديدة، كما لدينا الكثير من الخبراء في فلسطين وفي الشتات للمساعدة في ايجاد البديل الأفضل لمستقبل الأجيال الفلسطينية، التي يتحتم علينا أن نؤسس لها لتكون واعدة وناجحة.
لقد آن الاوان لنأخذ بيد شاباتنا وشبابنا، ونساعدهم على العبور لعالم أرحب؛ عالم الإمكانيات المتاحة والفرص المفتوحة. هؤلاء هم جيل المستقبل الذي يستحق نظاماً تعليمياً جديداً مرناً وفعالاً، ليفتح لهم الآفاق ويصقل لهم شخصياتهم، ويمكنهم من الصمود والانعتاق، والمشاركة في إنتاج المعارف والابتكار، ومواكبة التطورات المتسارعة لتنمية المجتمع وخدمة الوطن والإنسانية. لكل ذلك، ومن أجل ذلك، يجب عدم التغاضي، بل الإسراع في إجراء مراجعة للنظام التعليمي الحالي برمته، بحيث يتم إلغاء امتحان "التوجيهي" ورفع هذا البلاء، ليس فقط عن الطلاب وذويهم، وإنما عن كاهل الوطن بشكل عام.