بقلم : سعيد عساف
ماذا لو استمرت جائحة فيروس كورونا، وأتمنى من الله ألا تستمر، لما بعد بداية العام الدراسي القادم؟ هل سيستمر انقطاع التواصل بين الطلبة والمعلمين، ويبقى التعليم عن بُعد من قبل المعلمين والمدارس معطّلاً أو عشوائياً؟ هل نستسلم وننتظر المجهول؟ هل ستكون مدارسنا جاهزةً مع بداية العام لاستقبال الطلبة ضمن شروط وزارة الصحة التي من أولها التباعد الآمن؟ ما العدد المناسب والممكن للطلبة في الصف الواحد؟ كيف سيتمّ ذلك في صفوف مزدحمة حيث يجلس اثنان أو ثلاثة طلاب على مقعد دراسي واحد؟ هل سنلجأ لتعليم الفترتين أو الثلاث فترات؟ هل يمكن أن يتم تقسيم طلاب الصف الواحد إلى أكثر من مجموعة وكل مجموعة تحضر إلى المدرسة يوماً أو يومين في الأسبوع أو حسب ما تسمح به ظروف المدرسة؟ كيف سيكون وضع المدارس التي تعمل حالياً بنظام الفترتين؟ وهل ساحات المدارس ومرافقها تسمح بالتباعد لمسافات آمنة؟ كل ذلك يستدعي استعدادات وتحضيرات تبدأ من الآن، وإلّا سنجد أنفسنا أمام معضلة كبرى تجبرنا على تمديد فترة إغلاق المدارس، وبالتالي تطول فترة انقطاع الطلبة عن التواصل مع المعلمين والمعلمات، فيزداد بعدُهم عن العلم والتعليم.
من الصعب توقّع تاريخ لإعادة فتح المدارس في ضوء عدم وضوح تصرف هذا الفيروس وضبابيّته، لا أحد يعرف إن كان بالإمكان توفير علاج له، أو متى يتم ذلك، وحسب توقّعات منظمة الصحة العالمية لن يتوفر العلاج قبل 2021. واستعداداً لتحدّيات هذا السيناريو السيئ، والذي أسأل الله ألّا يكون، لا بدّ من إيجاد نماذج للتعليم عن بعد تضمن استمراريّة تعلّم الطلبة حتّى تعود الحياة إلى طبيعتها كما كانت قبل الجائحة.لا يوجد متّسع من الوقت، فالعام الدراسيّ القادم على الأبواب، ولا يمكن لاقتصادنا، بظروفه القائمة، أن يتحمّل طرح بدائل مكلفة، تستجيب لتعليمات التباعد الآمن حسب وزارة الصحّة الفلسطينيّة، وإن عاد الطلبة سيكون لا مفرّ من جعل المدارس تعمل بنظام فترتين أو ثلاث يوميّاً؟ وكلّنا يعرف كلفة هذا النظام التي قد تكون غير ممكنة؛ لذا لا بدّ من إيجاد بدائل أخرى للتعليم خارج أسوار المدرسة تضمن الحدّ الأدنى من جودة التعليم والتعلم، وللطلبة جميعاً دون استثناء.
ليس من الصواب الانتظار حتّى بداية العام الدراسيّ الجديد، مفترضين ومعتمدين وجود سيناريو واحد، وهو أنّ الجائحة ستختفي مع بداية العام الدراسيّ أي بعد حوالي 90 يوماً. ستنتج آثار مدمرة على الطالب والمعلم على حدّ سواء إذا ما استمرّ انقطاع الطلبة لفترة طويلة عن أيّ شكل من التعليم الجادّ، وغاب التواصل مع معلّميهم، كما هو حاصل الآن حيث لا يتمّ تواصل منظم بين معظم المعلمين والمعلمات مع الطلاب، رغم أنّه توجد محاولات نشطة من بعض المدارس، ومن قبل بعض المعلّمين والمعلّمات، لكن ليس من الجميع.
كلنا يتذكّر كيف استخدم الاحتلال إغلاق الجامعات والمدارس مرّات عديدة كعقاب لشعبنا الفلسطينيّ، لأنّه يعرف الآثار المدمّرة لانقطاع الطلاب عن الدّراسة، وتعوّدهم على الحياة المنزليّة دون مدارس، لكن ردّ الجماهير والمعلّمين والمعلّمات في الجامعات والمدارس بتبنّي التعليم المنزليّ السّريّ، في معظم حالاته كان نموذج التعليم المنزليّ هو الابتكار الأذكى للمعلّمين والأهالي في فلسطين حيث انطلق التعليم المنزليّ في حينه لمنع حدوث فجوة بين الطلبة ومدارسهم، وحرصاً على عدم حدوث ضعفٍ شديدٍ في اتجاهات الطالب وقدراته عند العودة للانخراط الجادّ في عملية التعلم.
أدعو إلى الاستعداد لتطبيق التعليم المنزليّ المُنَظَّم والمُوَجَّه، وهو تعليم يقوده المعلّمون والمعلّمات عن بعد، والطلبة خارج أسوار المدرسة، وهو نوع من التعليم إذا ما أُحسن تطبيقه فإنّه يضمن التواصل بين عناصر عمليّة التعليم الثلاثة، وهي: المعلّم، والطالب، والمنهاج.واستعداداً للسيناريو الأسوأ (لا سمح الله) يجب عدم التباطؤ في إيجاد استراتيجيّة تربويّة وطنيّة لتفعيل التعليم المنزليّ المُنَظَّم والمُوَجَّه من قبل المعلّمين والمعلّمات، وحتّى لا يصبح التعليم عن بعد بُعداً عن التعليم، يمكن البدء بتجربة التعليم المنزليّ المُنَظَّم والمُوَجَّه من الآن وخلال الصيف، دون الانتظار حتّى بداية العام، وذلك لنتعلّم منها الدروس والعبر، ومن ثمّ ننظّم العمل أكثر مع بداية العام، ويبدأ استنهاض الهمم في التعليم الإلكتروني من الآن، ورفع مستوى القائم منه حاليّاً حتّى يستجيب لأدنى متطلبات التعلّم الإلكترونيّ الجيّد. ويجب الحفاظ على العدالة، وعدم الإسهام في غيابها عن طريق استثناء من لا يملك القدرة على التواصل الإلكتروني، ويقع على عاتق المدارس والمديريّات والوزارة والمجتمع برمّته تحمّل تبعاته التربويّة والماديّة، والعمل على تحقيقها، وأقلّها توفير أجهزة إلكترونيّة وإنترنت مجّانيّ، أو بتكلفة قليلة لكلّ طالب لا تستطيع عائلته تغطية تلك النفقات، وهناك طرق فنّيّة يعرفها المختصّون لتوفير إنترنت تدفع تكلفته المجالس البلديّة والقرويّة، ويغطي مسطّح كلّ تجمّع سكّانيّ، كما هو حاصل في إنترنت رام الله الذكيّة المجّانيّ مثلاً.
إنّ تطبيق التعليم المنزليّ المُنَظَّم والمُوَجَّه من قبل المعلّمين والمعلّمات في المرحلة الحاليّة ممكن لأنّ:
أوّلاً: المعلّم الفلسطينيّ مشتاق للتواصل مع طلابه، ويدرك خطورة انقطاع الطلّاب عن الدراسة، وهنا لا بدّ من التأكيد على ثقة الجميع بقدرات معلّمينا ومدارسنا ومدى إخلاصهم، نرى ذلك في العديد من الصور التي تنشر على المواقع الإلكترونيّة للمدارس، ويظهر فيها المعلّمون والمعلّمات ومديرو المدارس ومديراتها وهم يتفقدون مرافق مدارسهم، ويطمئنّون على سلامتها.
ثانياً: يتعامل الطالب مع ما يأتيه من معلّمه، دون سواه، بدرجة عالية من الجدّيّة، وينتظر واجبات وأوراق عمل ممتعة وجاذبة، تساعده على التفكير، والتعلم الذاتيّ المُنَظَّم والمُوَجَّه من قبل المعلّمين والمعلّمات. وهنا نحتاج إلى بناء ثقافة أولياء أمور داعمة تتعامل مع الطالب على أنّه ليس في إجازة، وحثّه على العمل الجادّ، ومتابعته على إكمال ما يطلبه المعلّم منه، ودون توتير نفسيّ أو اجتماعيّ.
ثالثاً: يبدو أن الدوام المدرسي غير المزدحم، سواءً كان بنظام الفترتين أو في أيام محددة، سيكون متاحاً حسب تعليمات وزارة الصحة، فحضور الطلبة للمدارس بأعداد قليلة وفي ايام محددة يبقي على التواصل بين الطالب والمعلم والمنهاج، وهنا يتاح المجال أمام المدارس لتطبيق التعليم المنزليّ المُنَظَّم والمُوَجَّه الذي يقوده المعلمون والمعلمات.
أدعو إلى البحث، من الآن، وقبل مداهمة العام الدراسيّ عن آليات عمل المعلّمين والمعلّمات والمدارس، وأشكال دوامهم، وأرى أن تُترك هذه الآليّات لمدير المدرسة ضمن توجيهات عامّة من مديريّة التربية والتعليم والوزارة، وتُدار حسب ظروف المدرسة. ربّما تتمّ إعادة تشكيل العلاقة بين المدارس ومديريّات التربية والتعليم والوزارة لتعطى المدارس مزيداً من اللامركزيّة في قيادة العمليّة التعليميّة في ظلّ استمرار الجائحة مع بداية العام الدراسي القادم. بالتأكيد سيحتاج المعلمون إلى تطبيق أنماط جديدة من التعليم والتقويم التربوي بشقيه البنائي والختامي تستجيب لطبيعة التعليم المنزليّ المُنَظَّم والمُوَجَّه، كما سيحتاجون إلى إتقان مهارات تعويد الطلبة على التعلم الذاتي، لكن يجب ألا ننتظر حتى يحصل ذلك الآن. وفي المستقبل سنحتاج إلى التركيز على التعليم الالكتروني وتحقيق متطلباته التي يصعب تحقيقها جميعها الآن، وهو موضوع لا بد من تناوله بشيء من التروي والحكمة، آخذين بالاعتبار التطور السريع الذي يحدث عالمياً في أشكال التعلم الإلكتروني والأجهزة والبرامج ذات القدرات التعليمية الهائلة.
مثّلت الشهور الفائتة مرحلة الصدمة لنا ولكلّ أنظمة التعليم في العالم، ووُضع الجميع أمام تحدّيات لم تكن في البال، كما ستنتج عن الجائحة نتائج جديدة قد تعيد تشكيل مفهوم المدرسة، ومفاهيم التعليم والتعلّم. وأرجو ألّا يُستنزَف جهدنا في تقييم مرحلة الصدمة لأنّه غير مفيد، فالأهمّ هو التفكير في الغد، والسعي بجدّ لإيجاد حلول واقعيّة مقبولة وقابلة للتحقيق.ومثلما تُعدّ الصحة والاقتصاد من أركان استمرار حياة المجتمع، فالتعليم هو الركيزة الثالثة لحياة المجتمع؛ لأنّه هو رأسمال الوطن اليوم وغداً، وهو عماد المستقبل وبوصلته.