بقلم : جورج كرزم
تسببت جائحة كورونا في خفض مستويات التلوث بالعالم. وبناء على ذلك، يأمل البعض في أن يتبنى المجتمع البشري العادات الاستهلاكية المقيدة التي يتم تطبيقها حاليا في ظل الجائحة؛ إلا أن التجارب البشرية السابقة تؤكد بأن الأنظمة والشركات الرأسمالية العملاقة ستضغط لاستئناف «النمو» ومراكمة المزيد من الأرباح الهائلة.وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أُجبِرَ الجنس البشري، خلال الأشهر الأخيرة، على إيقاف السباق الذي لا هوادة فيه لاستغلال واستنزاف الموارد الطبيعية وتحويلها إلى سلع تجارية. غازات الدفيئة المنبعثة من الطائرات وبالتالي تلوث الهواء هبطا هبوطا حادا، وكذلك انبعاثات المصانع والمركبات، علما أن شوارع كبرى المدن العالمية في البلدان الصناعية أمست مهجورة. الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) سجلت خلال الأشهر الأخيرة انخفاضا كبيرا في مستويات تلوث الهواء في شمال الصين وفي الولايات المتحدة، كذلك الأمر فيما يتعلق بالقياسات المماثلة في أوروبا.
وكالة الفضاء الأوروبية أفادت بأن انخفاضا كبيرا في انبعاثات أكاسيد النيتروجين تم تسجيله (في أواخر آذار الماضي) في شمال إيطاليا. هذه الملوثات المسؤولة عن إتلاف الجهاز التنفسي، تنبعث بشكل أساسي من المركبات.
يضاف إلى ذلك، انخفض بشكل كبير الطلب على النفط والموارد الطبيعية الأخرى، كما أن الآليات الثقيلة في العديد من المواقع توقفت عن سحقها المتواصل للطبيعة أثناء عمل المحاجر والكسارات. علاوة على أن ملايين السياح توقفوا عن توليد التلوث والإخلال المستمر بالأنظمة الطبيعية في شواطئ البحار والمواقع الأخرى. ولغاية هذه اللحظة، لا توجد بحوزتنا بيانات حول التغيرات في تجارة الحيوانات البرية؛ إلا أنه يمكننا التقدير بأن تقليصا جديا حدث هنا أيضا، بسبب شلل المطارات التي تعد أحد الطرق المفضلة للمهربين.
ما فشلت في تحقيقه عشرات المؤتمرات المناخية العالمية، يحدث حاليا في أجزاء كثيرة من العالم حيث تقلص كثيرا النشاط الاقتصادي والصناعي. وفي حال استمرار أزمة كورونا حتى نهاية العام الحالي، يمكننا حينئذ التقدير بأنه، للمرة الأولى، سيتم تسجيل انخفاضٍ كبيرٍ جدا في انبعاث غازات الاحتباس الحراري، بالمقارنة مع السنوات السابقة. وإذا ما تمكن العلماء من أن يقدموا لنا تقييما مستنيرا، فسيكون من المثير للاهتمام مقارنة عدد الأشخاص الذين لم يموتوا نتيجة لانخفاض التلوث البيئي (وبخاصة التلوث الهوائي)، بالمقارنة مع عدد الضحايا الذين التهمتهم أو ستلتهمهم جائحة كورونا (حتى نهاية السنة الحالية).
الكليشيهات المألوفة القائلة بتحويل الأزمة إلى فرصة، تكتسب أهميتها بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالأبعاد البيئية طويلة الأمد للجائحة العالمية. فظروف نشأة هذه الجائحة وتطورها بلورت في الواقع تجارب عالمية مستجدة حول تغيير أنماط الحياة والعادات، والتي لم تنجح في تحقيقها السياسات البيئية الأكثر تقدما.ولفترة زمنية قد تستمر بضعة أشهر أو أكثر من ذلك، فإن مئات ملايين الناس في البلدان الأكثر ثراء يجدون أنفسهم غير قادرين على الإنفاق والشراء والاستهلاك والترفيه، كما اعتادوا على القيام بذلك طوال حياتهم. فجأة، يُطلب من عدد هائل من الشركات بأن تعيد النظر في فعالية إجراءاتها ونشاطاتها المنفذة حتى الآن، والبحث عن بدائل مناسبة لحالة الطوارئ.
هل تشكل الـ«كورونا» «فرصة»؟
مجموعة خبراء المدونة البيئية Future Earth عَرّفَت أزمة كورونا بأنها «فرصة نادرة للتحول نحو الاستدامة... ويتجسد التحدي في تثبيت الانخفاض الحادث حاليا في إنتاج الطاقة واستغلال الموارد الطبيعية، والذي سيتعاظم في الأشهر المقبلة». ويجادل هؤلاء الخبراء وغيرهم بأن العديد من المستهلكين سيتبنون العادات الحياتية الجديدة، بما في ذلك الطهي في المنزل بدلاً من الخروج إلى المطاعم، أو الاعتماد على المشي وركوب الدراجات.
وقد يستنتج البعض، استنادا إلى تجربة الأشهر القليلة الماضية، بأنهم لا يحتاجون للكميات الكبيرة من المنتجات التي اعتادوا على شرائها، ويمكنهم بالتالي الاكتفاء بكميات أقل. بل إن العديد من شركات الأعمال قد تواصل إجراء مداولاتها واجتماعاتها عبر الفيديو، من خلال التطبيقات الرقمية المختلفة، بدلاً من تكليف موظفيها بالسفر حول العالم لعقد اجتماعاتهم. وقد تجد تلك الشركات أن بإمكانها الاعتماد على موردين محليين، دون الحاجة إلى شحن البضائع لمسافات شاسعة.
لكن، واستنادا إلى التجربة التاريخية، يمكننا أيضا التقدير بأن الأزمة الحالية قد تؤدي إلى نتائج معاكسة. إذ إن دولاً عديدة في العالم وشركات احتكارية عملاقة ستخضع لمغريات وضغوط لاستئناف النمو الاقتصادي بقفزات متجددة مرة أخرى. هذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وحدث أيضا بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى العام 2008.في الواقع، لا يمكننا تجاهل عملية التعلم الناتجة من أزمات بيئية سابقة، إذ اتخذت بلدان عديدة إجراءات بيئية في أعقاب الأزمات، بما في ذلك منع الأضرار التي لحقت بطبقة الأوزون، والحماية الدولية للأنواع المهددة بالانقراض وغير ذلك. ولعل أبرز مثال، في هذا السياق، هو كارثة مفاعل فوكوشيما النووي باليابان، والتي أسفرت عن إلغاء العديد من خطط ومشاريع إنشاء مفاعلات نووية.
لكن، بما أن الكثيرين يعتبرون أزمة كورونا صحية وليست بيئية، فمن المرجح أن يعود محرك النمو الاقتصادي الرأسمالي الجشع إلى قوته الكاملة؛ إذ إن النظام الاقتصادي الرأسمالي الحالي (اقتصاد السوق وتشجيع الاستهلاك الضخم والسياسات النيوليبرالية) غير مبرمج لتقليل استغلال واستنزاف الموارد وتغيير العادات الاستهلاكية. لذا، من غير المؤكد إطلاقا بأن تؤدي الأزمة الأخطر التي عرفها العالم في العقود الأخيرة، إلى إحداث إزاحة جدية أو نوعية في بنية النظام الاقتصادي الحالي.